أحداث السنة التاسعة من بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم
The events of the ninth year of the mission of the Messenger of Allah, Muhammad (peace be upon him)
قال ابن إسحاق: وبنو هاشم وبنو المطلب في منزلهم الذي تعاقدت فيه قريش عليهم في الصحيفة التي كتبوها، ثم إنه قام في نقض تلك الصحيفة التي تكاتبت فيها قريش على بني هاشم وبني المطلب نفر من قريش، ولم يبل فيها أحدٌ أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن ربيعة، وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه فكان هشام لبني هاشم واصلًا، وكان ذا شرف في قومه، فكان -فيما بلغني- يأخذ بالبعير، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلًا، قد أوقره طعامًا حتى أقبل به فم الشعب خلع خطامه من رأسه، ثم ضرب على جنبه، فيدخل الشعب عليهم ثم يأتي به قد أوقره بِزًّا أو بُرًّا، فيفعل به مثل ذلك.
قال ابن إسحاق: ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت، لا يباعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟ أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدًا، قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل أخر لقمت في نقضها حتى أنقضها، قال: قد وجدت رجلًا قال: فمن هو؟ قال: أنا، قال له زهير: أبغنا رجلًا ثالثًا.
فذهب إلى المطعم بن عدي، فقال له: يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه! أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعًا، قال ويحك فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانيًا، قال: من هو؟ قال: أنا قال: أبغنا ثالثًا، قال: قد فعلت، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: أبغنا رابعًا.
فذهب إلى البختري بن هشام، فقال له نحوًا مما قال للمطعم بن عدي، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم، قال: من هو؟ قال: زهر بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا معك، قال أبغنا خامسًا.
فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم؛ ثم سمى له القوم.
فاتعدوا خطم الحجون (1) ليلًا بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك. فأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم، فأكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير ابن أميه عليه حلة فطاف بالبيت سبعًا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، إنا أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل: وكان في ناحية المسجد: كذبت والله لا تشق، قال زمعة ابن الأسود أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حيث كتبت. قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقر به، قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك. فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تشوور فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها، إلا “باسمك اللَّهم”.
وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة فشلت يده فيما يزعمون.
قال ابن هشام: وذكر بعض أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب: “يا عم، إن ربي الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسمًا هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان”، فقال: أربك أخبرك بهذا؟ قال: “نعم”، قال: فوالله ما يدخل عليك أحد، ثم خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم، فإن كان كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا، وانزلوا عما فيها، وإن يكن كاذبًا دفعت إليكم ابن أخي. فقال القوم: رضينا. فتعاقدوا على ذلك. ثم نظروا. فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فزادهم ذلك شرًا. فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا.
ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيًا واحدًا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا، قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقِم لنا رأيًا نقول به، قال: بل أنتم فقولوا أسمع، قالوا: نقول كاهن، قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة (1) الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته، قالوا: فنقول: شاعر، قال ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر، قال ما هو بساحر، لقد رأينا السُّحَّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم (2)، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إنّ لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة -قال ابن هشام: ويقال لغدق- وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرّق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسُبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمرّ بهم أحد إلا حذروه إيّاه، وذكروا لهم أمره. فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة وفي ذلك من قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًاوَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا}
روى البخاري بسنده عن مسروق قال: “دخلت على عبد الله فقال: إنَّ من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم. إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}. إنَّ قريشًا لما غلبوا النبي صلى الله عليه وسلم واستعصوا عليه قال: اللَّهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف فأخذتهم سنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد، حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع قالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} فقيل له: إن كشفنا عنهم عادوا، فدعا ربه، فكشف عنهم فعادوا، فانتقم الله منهم يوم بدر، فذلك قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} إلى قوله جل ذكره: {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}.
روى البخاري بسنده عن مسروق قال: “قال عبد الله: إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم وقال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى قريشًا استعصوا عليه فقال: اللَّهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم السنة حتى حصَّت كل شيء حتى أكلوا العظام والجلود، وقال أحدهم: حتىأكلوا الجلود والميتة، وجعل يخرج من الأرض كهيئة الدخان، فأتاه أبو سفيان فقال: أي محمَّد، إنَّ قومك قد هلكوا، فادع الله أن يكشف عنهم. فدعا، ثم قال: تعودوا بعد هذا. في حديث منصور: ثم قرأ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} إلى {عَائِدُونَ} أيُكشف عنهم عذاب الآخرة؟ فقد مضى الدخان والبطشة واللزام- وقال أحدهم القمر وقال الآخر الروم.
روى البخاري بسنده عن مسروق قال: “قال عبد الله: إنما كان هذا لأنّ قريشًا لما استعصوا على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحطٌ وجهدٌ حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد. فأنزل الله عز وجل {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت. قال لمضر؟ إنك لجريء، فاستسقى، فسقوا، فنزلت {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية، فأنزل الله عز وجل {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} قال: يعني يوم بدر” (1).
روى البخاري بسنده عن مسروق قال: “دخلت على عبد الله، ثم قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا قريشًا كذّبوه واستعصوا عليه، فقال: اللَّهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف. فأصابتهم سنة حصّت كل شيء، حتى كانوا يأكلون الميتة، وكان يقوم أحدهم فكان يرى بينه وبين السماء مثل الدخان من الجهد والجوع. ثم قرأ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} حتى بلغ {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ}، قال عبد الله أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟ والبطشة الكبرى يوم بدر”