أحداث السنة الثالثة من هجرة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم

Events of the third year of the migration of the Messenger of Allah, Muhammad (peace and blessings of Allah be upon him)

مكث النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا بعد رجوعه مِن غزوة السويق، فأقام بقية ذى الحجة، ثم غزا نجدًا يريد غطفان، حيث تجمعوا عند مَاءٍ يقالُ له (ذو أمَرّ) بناحية نجدٍ، واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة عثمان بن عفان رضى الله عنه، فأقام بنجدٍ صفرًا كلَّه أو قريباً مِن ذلك، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيدًا

كان كعب بن الأشرف اليهودي من الحاقدين على الإِسلام والمسلمين بالمدينة، وهو من قبيلة طيء، وأمُّه من بني النضير، وكان يكتم غيظه وحقده على المسلمين، حتى انتصر المسلمون على المشركين في موقعة بدر، وجاء الخير، فلم يستطع كتم مَا بداخله من حقد وغيظ على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى الإسلام والمسلمين، حتى إنه قال حين بلغه الخبر: أحق هذا؟ أترون محمدًا قتل هؤلاء، فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمدٌ أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.فلما تيقن عدوُّ الله الخبر خرج حتى قدم مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضُبيرة السهمىَّ، وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، فأنزلته وأكرمته وجعل يحرَّض على الرسول صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار، ويبكي أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر.
ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة فشبَّبَ بنساء المسلمين (1) حتى آذاهم (2) فقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ لِكَعْبِ بن الْأَشْرَفِ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى الله وَرَسُولَهُ؟ “، فَقَامَ مُحَمَّدُ بن مَسْلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَمُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: “نَعَمْ”، قَالَ: فَأْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئًا، قَالَ: ((قُلْ))، فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بن مَسْلَمَةَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً – يقصد النبي صلى الله عليه وسلم وَإِنَّهُ قَدْ عزَّانا (3)، وإنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَسْلِفُكَ، قَالَ: وَأَيْضًا وَاللهِ لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ: إِنَّا قَدْ اتَّبَعْنَاهُ فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إلى أَيِّ شَئءٍ يَصِيرُ شَأْنُهُ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ، قَالَ: نَعَمِ ارْهَنُونِي، قَالُوا: أَيَّ شَئءٍ تُرِيدُ؟ قَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ؟ قَالَ: فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ فَيُقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ؟ هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا وَلَكِنَّا نَرهَنُكَ اللَّأْمَةَ- يَعْنِي السّلَاحَ- فَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ فَجَاءَهُ لَيْلًا (4) وَمَعَهُ أبو نَائِلَةَ، وَهُوَ أَخُو كَعْبٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وأبو عيسى بن جبر، والحارث بن أوس وعباد بن بشر.
ومشى معه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرْقد، ثم وجههم، فقال: “انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم” ثم رجع رسول الله إلى بيته، وهو في ليلة مقمرة، وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس، فوثب في مِلحفته، فأخذت امرأته بناصيتها، وقالت: إنك امرؤ محارَب، وإنَّ أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة لو وجدني نائمًا لما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، فقال: لو يُدعى الفتى لطعنة لأجاب، فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن نتماش إلى شعب العجوز، فنتحدث به بقية ليلتنا هذه، قال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة شامَ يده في فود رأسه (1)، ثم شمَّ يده فقال: ما رأيت كالليلة طيبًا أعطر قط، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها حتى اطمأنَّ، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها، فأخذ بفود رأسه، ثم قال: اضربوا عدو الله فضربوه، فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئًا، قال محمد بن مسلمة: فذكرتُ مغولاً (2) في سيفي، حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئًا، فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حِصن إلا وقد أوقدت عليه نارٌ قال: فوضعته في ثُنَّته (3)، ثم تحاملتُ عليه حتى بلغتُ عانته فوقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ فجرح في رأسه أو في رجله، أصابه بعض أسيافنا، قال: فخرجنا حتى سلكنا علي بني أمية بن زيد، ثم علي بني قُريظة، ثم على بُعاث حتى أسْندْنا (4) في حرة العريض (5) وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتانا يتْبعُ آثارنا، قال: فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل، وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه، فخرج إلينا، فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل على جُرح صاحبنا، فرجع ورجعنا إلى أهلنا فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه

عقد عثمان بن عفان على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أختها رُقية، وكان عقده عليها في ربيع الأول منها، وبنى بها في جمادى الآخرة منها

غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قريشًا، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، حتى بلغ بُحران (3) من ناحية الفرع، فأقام بها شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى؛ ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا

وسرية زيد بن حارثة التي بعثه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيها حين أصاب عير قريش، وفيها أبو سفيان بن حرب على القَرَدَة، ماء من مياه نجد، وكان من حديثها: أنَّ قريشًا خافوا طريقهم الذي كانوا يسلكون إلى الشام، حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تُجار فيهم: أبو سفيان بن حرب، ومعه فضة كثيرة، وهي عُظْم تجارتهم، واستأجروا رجلاً من بني بكر بن وائل، يقال له: فرات بن حيَّان يدُلُّهم على الطريق.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة فلقيهم على ذلك الماء، فأصاب تلك العير وما فيها، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم

عن عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بنتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بن حُذَافَةَ السَّهْمِيّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقَالَ: سَأَنْظُرُ في أَمْرِي فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، ثُمَّ لَقِيَنِي، فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِي أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بنتَ عُمَرَ فَصَمَتَ أبو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، وَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ فَلَقِيَنِي أبو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا، قَالَ عُمَرُ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ أبو بَكْرٍ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَيَّ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ ذَكَرَهَا فَلَم أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَبِلْتُهَا

ذكر ابن حجر رحمه الله: أن زينب بنت خزيمة رضي الله عنها كانت تحت عبد الله بن جحش، وقيل: كانت تحت الطفيل ابن الحارث، ثم خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث، فقتل عنها ببدر، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوجها في رمضان سنة ثلاث، ثم لم تلبث إلا شهرين أو ثلاثة، وماتت وقيل: ثمانية أشهر.
وكانت تُسمى أم المساكين، لأنها كانت تطعمهم، وتتصدق عليهم

الحسن بن عليِّ، أمير المؤمنين، أبو محمد، ولد في نصف شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة وقيل: في شعبان منها، وقيل: ولد سنة أربع، وقيل: سنة خمس، والأول أثبت

لم تهدأ قريش ولم يسكن لها بالٌ منذ انتهاء وقعة بدر، بل ظلتْ في غيظ شديد وغليان مما حدث، فقد قُتِلَ زعماؤها وكُسِر كبرياؤها، وضاعتْ هيبتُها أمام العرب، وأصبح زعماؤها مطالبون بالثأر واسترداد الكرامة.
فأخذوا يعدودن لذلك منذ رجوعهم من بدر.
بل قيل إنهم خصصوا القافلة التي نجتْ من المسلمين يوم بدر لهذا الأمر (2).
وبعد مرور ثلاثة عشر شهرًا فقط من وقعة بدر جهزت قريش جيشًا تعداده ثلاثة آلاف مقاتل، معهم مئتا فرس، وجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل (3)، ثم خرجوا لمحاربة المسلمين، وخرج معهم من أطاعهم من قبائل كنانة، وأهل تهامة (4).
وقد رَأى النَّبيُ صلى الله عليه وسلم هذا في رؤيا منامية قبل علمه بقدوم المشركين، وقصها على أصحابه- رضوان الله عليهم- فقَالَ صلى الله عليه وسلم:”رَأَيْتُ في رُؤْيَايَ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُه فَإذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ ممَا كَانَ، فَإذَا هُوَ مَا جَاءَ بِهِ الله مِنْ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللهُ خَيْرٌ، فَإِذَا هُمْ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ” (1) أي: هم المؤمنون الذين قتلوا يوم أُحُد.
وفي رواية: “وَرَأَيْتُ أَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَاَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ” (2).
ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم المشركين فجمع أصحابه وأشار عليهم فَقَالَ لهم: “لَوْ أَنَّا أَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ فَإنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا فِيهَا قَاتَلْنَاهُمْ”، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَاللهِ مَا دُخِلَ عَلَيْنَا فِيهَا في الْجَاهِلِيَّةِ فَكَيْفَ يُدْخَلُ عَلَيْنَا فِيهَا في الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: “شَأْنكُمْ إِذًا”، ولَبِسَ صلى الله عليه وسلم لَأْمَتَهُ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: رَدَدْنَا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم رَأْيَهُ، فَجَاءُوا فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ الله شَأْنَكَ إِذًا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ” (3).
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيش تعداده ألف مقاتل، معهم فرسان فقط، ومائة دارع (4).
ولَبِسَ النبي صلى الله عليه وسلم دِرْعَيْنِ (5).
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم للصلاة بالناس ثم سار بالجيش متوجهًا إلى أُحُد (1) حتى إذا كانوا بالشَّوْط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش، وقال: أطاعهم وعصاني (2) ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والرَّيب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، أخو بني سلمة، يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال (3).
وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)} [آل عمران: 167،166].
وما جعل الله ذلك إلا ليميز الخبيث من الطيب.
يقول الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].
وكاد بنو سَلِمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ أنْ يفشلا ويتَّبعا المنافقين لولا أنْ ثبتهم الله وفي ذلك يقول الله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران: 122] (1).
ولما رجع المنافقون وتركوا الجيش قال فريق من أصحاب النبيِ صلى الله عليه وسلم: نُقَاتِلُهُمْ، وقال فريق آخر: لَا نُقَاتِلُهُمْ، فأنزل الله عزوجل: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} وَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّهَا طَيْبَةُ تَنْفِي الذُّنُوبَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ” (2).
وفي الطريق استعرض النبيُّ صلى الله عليه وسلم الجيش فردَّ صغار السن، ومنهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وكان عمره أربعة عشر سنة (3).
وأخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سيفاً وقال: “مَن يأخذ هذا السيف بحقه” فقام إليه رجال كلٌ يقول: أنا، أنا، فامسكه عنهم وقال: “من يأخذه بحقه” فقام أبو دُجانة سماكُ بن خَرَشة وقال: وما حقه يا رسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: “أن تضرب به العدوَّ حتى ينحني” فقال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه فأعطاه إيَّاه، وكان أبو دُجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكان إذا أُعلم بعصابة له حمراء فاعتصب بها، علم الناس أنه سيُقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عصابته تلك،فعصب بها رأسه ثم جعل يتبختر بين الصفين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أبا دُجانة يتبختر: “إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن” (1).
وتقدم الجيش الإِسلامي إلى ميدان أحد وأخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ينظم مواقع الجيش ويملي على الجند خطته، فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وجه جيشه إلى المدينة وظهره إلى جبل أحد لحماية ظهر المسلمين من أن يُداهمهم أَحدٌ من خلفهم، ثم عزَّز ذلك بخمسين راميًا بقيادة عبدلله بن جبير رضي الله عنه أوقفهم على جبل عَيْنَيْن (2) – الذي يقع خلف جبل أُحُد- حتى إذا فكَّر أحدٌ في مباغتة المسلمين من الخلف أمطروه بوابلٍ من النبال فمنعوه من ذلك، وشدد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم أماكنهم، وعدم مغادرة الجبل تحت أي ظرف من الظروف، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: “إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أُرسل إليكم” (3).
وبذلك سيطر المسلمون على مرتفعات الميدان فأصبحوا في مأمن من أن يباغتهم أحد من الخلف، وأصبحوا لا يفكرون إلا في جبهة واحدة، بخلاف المشركين الذين عسكروا في وادي أحد المكشوف من كل جوانبه، فتميز عنهم المسلمون بالموقع رغم وصول المشركين إلى المكان قبلهم، ولكنها عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم القائد.
وبدأت المعركة بمبارزة بين حمزة رضي الله عنه وبين رجل من المشركين يقال له سِباع، حيث خرج سِباع هذا من بين الصفوف – لما اصطف الفريقان للقتال-فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة رضي الله عنه فقال: يا سباع يا ابن أم أنمار مُقطّعة البظور (1) أَتُحادُّ الله ورسوله؟ ثم شد عليه حمزة رضي الله عنه فقتله (2)، ثم حانت ساعة القتال فالتقى الفريقان، والتحم الجيشان، واشتد النزال بني جيش المسلمين المكون من سبعمائة مقاتل بعد انسحاب المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المنافقين، وجيش المشركين البالغ عدده ثلاثة آلاف مقاتل فكانت الغلبة أولا للمسلمين، حيث ألحقوا بالمشركين هزيمة نكراء وردوهم إلى معسكرهم، وقاتل أبو دُجانة بسيف النبي صلى الله عليه وسلم حتى فلق به هام المشركين (3)، حتى قتل في أول النهار من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة (4).
وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152] (5) أي: ولقد صدقكم الله وعده أيها المؤمنون الذي وعدكم إياه إن أطعتم الله ورسوله، أن لكم النصر على الأعداء.
وفي وسط المعركة جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فَأَيْنَ أَنَا؟ قَالَ: “في الْجَنَّةِ”، فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ في يَدِهِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.

‌‌مخالفة الرماة أمر النبي صلى الله عليه وسلم -:
فلما انهزم المشركون وفرُّوا من الميدان وتركوا أموالهم وأمتعتهم في ساحة المعركة، ورأى الرماة ذلك تركوا أماكنهم على الجبل ونزلوا وهم يقولون: الغنيمة، الغنيمة، فَقَالَ لهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه: عَهِدَ إِليَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا تَبْرَحُوا، فَأَبَوْا (1).
فلما تركوا الجبل ونزلوا انكشف ظهر المسلمين، فرأى المشركون الفرصة سانحة للإلتفات حولهم ومحاصرتهم، ففعلوا ذلك، وأحاطوا بالمسلمين من الخلف والأمام، فارتبكت صفوف المسلمين ارتباكًا شديدًا وأصبحوا يقاتلون دون تخطيط (2)، واستغل إِبْلِيسُ عليه لَعْنَةُ الله الفرصة فصرخ في المسلمين: أَيْ عِبَادَ الله أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ مع أُخْرَاهُمْ، وأخذ المسلمون يضرب بعضهم بعضًا، حتى إن حُذَيْفَةَ بن اليمان رضي الله عنهما رأى أباه الْيَمَانِ- رضي الله عنه يضربه المسلمون، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ الله أَبِي، أَبِي، فمَا احْتَجَزُوا عنه حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ الله لَكُمْ (3).
وفي وسط المعركة قُتل مصعب بن عمير رضي الله عنه سفير النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قبل الهجرة- الذي قيل أنه كان يحمل لواء المهاجرين في هذه المعركة مع أسيد بن حضير الذي كان يحمل لواء الأوس، والخُباب ابن المنذر الذي كان يحمل لواء الخزرج (4) قتله ابن قمئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدًا، فلما قتل مصعب رضي الله عنه أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1).
وَصَاحَ الشَّيْطَانُ وسط الميدان: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَلَمْ يُشَكَّ أحد أَنَّهُ حَقٌّ (2).
فلما انتشر الخبر وشاع بين صفوف المسلمين، خارت قوى بعض المسلمين، ولانت عزيمتهم، حتى إنهم جلسوا عن القتال، فرآهم أنس بن النضر رضي الله عنه عم أنس بن مالك رضي الله عنه فقال لهم ما يُجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل (3).
وكان أنس بن النضر رضي الله عنه لَمْ يَشْهَدْ مَعَ النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بَدْر، فقَالَ: غِبْتُ عَنْ أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم لئن أشهدني الله مع النبي صلى الله عليه وسلم ليرينَّ الله مَا أَصْنَعُ، فلما رأى ذلك من المسلمين يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني المسلمين- وأبرأُ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فلقيَ سَعْدُ بن مُعَاذٍ، فَقَالَ: أَيْنَ يا سعد إني أجد رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، فما عرف حتى عرفته أُخْتُهُ بشامة أو ببنانة وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم فنَزَلَتْ فيه وفي أصحابه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)} [الأحزاب: 23] (4).
وكما تقدم فإن بعض القوم جلسوا عن القتال وفرَّ آخرون بين الشعاب بعدما شاع بينهم خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم.
أمَّا النبي صلى الله عليه وسلم فكان كالليث يقاتل بين الصفوف، وكان أولُ من عرف بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حيٌّ هو كعب بن مالك رضي الله عنه فنادى في المسلمين يبشرهم فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالسكوت لئلا يفطن له المشركون (1).
وظل النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل وحوله فئةٌ قليلة من الصحابة رضوان الله عليهم صمدوا معه يدافعون عنه صلى الله عليه وسلم.
وقد تفطن المشركون بأن النبي صلى الله عليه وسلم حيٌ لم يُقتلْ فتكاثروا عليه يريدون قتله.
وكان حول النبي صلى الله عليه وسلم تسعة من الصحابة سَبْعَةٌ مِنْ الْأَنصَارِ، واثنان من المهاجرين، فَلَمَّا رَهِقُوهُ (2) قَالَ: “مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ- أَوْ هُوَ رَفِيقِي في الْجَنَّةِ-“، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا فَقَالَ: “مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ- أَوْ هُوَ رَفِيقِي في الْجَنَّةِ-“، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ من الأنصار، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِصاحِبَيْهِ: “مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا”وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا أصحابه للعودة إلى القتال وفي ذلك يقول الله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ (1) وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ (2) وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [آل عمران: 153] أي: والرسول يناديكم من خلفكم، إلىّ عباد الله، إليّ عباد الله (3).
وكان طلحة بن عبيد الله ممن ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ودافع عنه حتى شُلَّتْ يده رضي الله عنه كان يقي بها النبي صلى الله عليه وسلم (4).
وكان ممن ثبت أيضًا مع النبي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكان راميًا ماهرًا لا تكاد رميته تُخطئ، فنثل له النبي صلى الله عليه وسلم كنانته (5) وجعل يقول له: “ارْمِ فِدَاكَ أبي وَأُمِّي”وممن ثبت مع النَّبِي صلى الله عليه وسلم يدافع عنه أبو طَلْحَةَ زيد بن سهل الأنصاري رضي الله عنه فكان مُجَوِّبٌ على النبي صلى الله عليه وسلم بِحَجَفَةٍ لَهُ (1)، وَكَانَ أبو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ (2) كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ جَعْبَةٌ مِنْ النَّبْلِ فَيَقُولُ له النبي صلى الله عليه وسلم: انْثُزهَا لِأبي طَلْحَةَ، وكان النَّبِي صلى الله عليه وسلم يشرف برأسه ليَنْظُرَ إلى الْقَوْمِ، فَيَقُولُ له أبو طَلْحَةَ: بِأبي أَنْتَ وَأُمِّي لَا تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ (3).
وكان يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس واحد، فكان كلما رمى رمية رفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره ينظر إلى أين وقع السهم، فيدفع أبو طلحة صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ويقول: يا رسول الله هكذا لا يصيبك سهم (4).
ورغم استبسال الصحابة- رضوان الله عليهم- في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم أفدوه بأرواحهم إلا أن المشركين استطاعوا أن يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث جُرح وجهه صلى الله عليه وسلم، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ (1) وهشمت الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ (2).

‌‌جبريل وميكائيل ينزلان للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم -:
لما حدث هذا للنبي صلى الله عليه وسلم وكاد المشركون أن يقتلوه، وقد تكفل الله تعالى بعصمته من الناس، قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] أنزل الله تعالى جبريل وميكائيل عليهما السلام يدافعان عن النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعانه من المشركين.
عَنْ سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لقد رَأَيْتُ يوم أحد عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن يساره رَجُلَيْنِ عَلَيهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، يقاتلان عنه كأشد القتال، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ -يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام (3).

‌‌مقتل أسد الله حمزة رضي الله عنه -:
وفي تلك المعمعة كان هناك رجلٌ له هدف آخر غير الذي جاء من أجله الطرفان، فهو لا يشغله من ينتصر، المسلمون أم المشركون، ولا يهمه ذلك الأمر كثيرًا، إنما كل الذي يشغله هو التحرر من الرق وأن ينفك من قيود العبودية.
وهذا الرجل هو وحشيٌ رضي الله عنه الذي أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه.ولنتركه يقصُّ علينا تفاصيل ما حدث بنفسه رضي الله عنه.
يقول وحشيٌ رضي الله عنه: إِنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ ابْنَ عَدِيّ بن الْخِيَارِ بِبَدْرٍ، فَقَالَ لِي مَوْلَايَ جُبَيْرُ بن مُطْعِمٍ: إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمّي فَأَنْتَ حُرٌّ، قَالَ: فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ النَّاسُ عَامَ عَيْنَيْنِ – وَعَيْنَيْنِ جَبَلٌ بِحِيَالِ أُحُدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَادٍ – خَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ إلى الْقِتَالِ فَلَمَّا أَنْ اصطَفُّوا لِلْقِتَالِ خَرَجَ سِبَاعٌ فَقَالَ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بن عبد الْمُطَّلِبِ فَقَالَ: يَا سِبَاعُ يَا ابْنَ أُمّ أَنْمَارٍ مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ أَتُحَادُّ الله وَرَسُولَهُ؟ ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ (1) قَالَ: وَمَكنْتُ لِحَمْزَةَ تَحْتَ صخْرَةٍ فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي فَأَضَعُهَا في ثُنَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ وَرِكَيهِ (2) قال النبي صلى الله عليه وسلم: “رأيت الملائكة تغسل حمزة بن عبد المطلب”

‌‌دور النساء في المعركة:
عن أنس رضي الله عنه قال: وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بنتَ أبي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا (1) تُنْقِزَانِ الْقِرَبَ (2) عَلَى مُتُونِهِمَا (3) تُفْرِغَانِهِ في أَفْوَاهِ الْقَوْمِ (4).
وقَالَ عُمَرُ بن الخطاب رضي الله عنه: أن أُمُّ سَلِيطٍ كَانَتْ تُزْفِرُ لَهم الْقِرَبَ يَوْمَ أُحُدٍ (5).

‌‌عدد من قتل من المسلمين في هذه المعركة:
عَنْ الْبَرَاءِ بن عازب رضي الله عنه أنه أُصِيبَ من المسلمين في هذه المعركة سَبْعُونَ قَتِيلًا (6).
وعن أبي بن كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ مِنْ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلاً، وَمِنْ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ منهِمْ حَمْزَةُ، فَمَثَّلُوا بِهِمْ وقيل: قتل من المشركين اثنان وعشرون رجلاً (1).

‌‌عمرو بن أُقَيش يدخل الجنة وما صلى لله صلاة:
عنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنّ عَمْرَو بن أُقَيْشٍ كَانَ لَهُ رِبًا في الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَرِهَ أَنْ يُسْلِمَ حَتَّى يَأْخُذَهُ، فَجَاءَ يَوْمُ أُحُدٍ، فَقَالَ: أَيْنَ بنو عَمِّي؟ قَالُوا: بِأُحُدٍ، قَالَ: أَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالُوا: بِأُحُدٍ، قَالَ: فَأَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالُوا: بِأُحُدٍ، فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، وَرَكِبَ فَرَسَهُ، ثُمَّ تَوَجَّهَ قِبَلَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا يَا عَمْرُو، قَالَ: إِنِّي قَدْ آمَنْتُ، فَقَاتَلَ حَتَّى جُرِحَ، فَحُمِلَ إلى أَهْلِهِ جَرِيحًا، فَجَاءَهُ سَعْدُ بن مُعَاذٍ، فَقَالَ لِأُخْتِهِ: سَلِيهِ حَمِيَّةً لِقَوْمِكَ، أَوْ غَضَبًا لَهُمْ، أَمْ غَضَبًا لِلَّهِ؟ فَقَالَ: بَلْ غَضَبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَمَاتَ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَا صَلَّى للهِ صَلَاةً (2).

‌‌عبد الله بن حرام رضي الله عنه تظله الملائكة بأجنحتها، ويكلمه الله من غير حجاب:
عَنْ جَابِرٍ بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا حَضرَ أُحُدٌ دَعَاني أبي مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ: مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا في أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنِّي لَا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَىَّ مِنْكَ غَيرَ نَفْسِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ عَلَيَّ ديْنًا فَاقْضِ وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا، فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ في قَبْرٍ ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ وعن جَابِر أيضًا قَالَ: لما كان يوم أحد جِيءَ بِأبي مُسجىً وقَدْ مُثِّلَ بِهِ، قال: فأردتُ أن أرفع الثوب فَنَهَانِي قَوْمِي، ثُمَّ أردت أن أرفع الثوب فَنَهَانِي قَوْمِي، فرفعه رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أو أمر به فَرُفِعَ، فَسَمِعَ صوْتَ باكية أو صَائِحَةٍ فَقَالَ: “مَنْ هَذهِ؟ “، فَقَالُوا: بنت عَمْرٍو أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو فقَالَ: “ولِمَ تَبْكِي؟ فَمَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ”.
وفي رواية لمسلم: “تَبْكِيهِ أَوْ لَا تَبْكِيهِ، مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ” (1).
وعنه أيضًا قال: لَقِيَنِي رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: “يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ ” قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله اسْتُشْهِدَ أَبِي، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا قَالَ: “أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بمَا لَقِيَ الله بِهِ أَبَاكَ؟ ” قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: “مَا كَلَّمَ الله أَحَدًا قَطُّ إِلًّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا فَقَالَ: يَا عَبدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً، قَالَ الرَّبُّ عزوجل: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنّي أَنَّهُم إِلَيهَا لَا يُرجَعُونَ، قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذهِ الْأيَةُ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169] (2).

‌‌حنظلةُ تُغسله الملائكة:
عن الزبير رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند قتل حنظلة بن أبي عامر بعد أن التقى هو وأبو سفيان بن الحارث حين علاه شداد بن الأسود بالسيف فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن صاحبكم تُغسله الملائكة فسألوا صاحبته عنه” فقالت: إنه خرج لما سمع الهائعة وهو جنب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لذلك غسلته الملائكة” (1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “رأيت الملائكة تُغسِّل حمزة بن عبد المطلب، وحنظلة بن الراهب” (2).

‌‌عمرو بن الجموح يطأُ برجله في الجنة:
كان عمرو بن الجموح رضي الله عنه رجلاً أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة يشهدون مع رسول الله المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا له: إن الله عزوجل قد عذرك، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك” فقال لبنيه: “ما عليكم أن لا تمنعوه فلعل الله أن يرزقه الشهادة” فخرج معه فقتل يوم أحد وعن أبي قتادة قال: جاء عَمْرُو بن الْجَمُوحِ رضي الله عنه إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلْتُ في سَبِيلِ الله حَتَّى أُقْتَلَ أَمْشِي بِرِجْلِي هَذهِ صَحِيحَةً في الْجَنَّةِ؟ فقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “نَعَم”، فَقُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ هُوَ وَابْنُ أَخِيهِ وَمَوْلىً لَهُمْ، فَمَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: “كَأنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكَ تَمْشِي بِرِجْلِكَ هَذهِ صَحِيحَةً في الْجَنَّةِ”، فَأَمَرَ رَسُولُ الله بِهِمَا وَبِمَوْلَاهُمَا فَجُعِلُوا في قَبْرٍ وَاحِدٍ (1).

‌‌عبد الله بن جحش رضي الله عنه يتمنى الشهادة في سبيل الله فينالها:
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، أن عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال له يوم أحد ألا تدعو الله، فخلوا في ناحية فدعا سعد فقال: يا رب إذا لقيت العدو، فلقني رجلاً شديدًا بأسه، شديدًا حردُهُ، أقاتله ويُقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله، وآخذ سلبه، فأمن عبد الله بن جحش، ثم قال: اللهم ارزقني رجلاً شديدًا حرده، شديدًا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع (2) أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا، قلت: من جدع أنفك وأذنك، فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول صدقت، قال سعد: يا بني كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرًا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط (3).

‌‌بعد انتهاء المعركة:
وبعد انتهاء القتال وانصراف كل فريق إلى معسكره وقد تأكد بعض الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُتل، إذ بالنبي صلى الله عليه وسلم يطلع عليهم بَينَ السَّعْدَين (4) عرفه الصحابة -رضوان الله عليهم- بِتَكَفُّئِهِ إِذَا مَشَى (1) يقول ابن عباس رضي الله عنهما: فَفَرِحَ به الصحابة حَتَّى كَأَنَّهُم لَمْ يُصِبْهم شيء فَرَقِيَ النبي صلى الله عليه وسلم نَحْوَهم وَهُوَ يَقُولُ: “اشْتَدَّ غَضَبُ الله عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ رَسُولِهِ”، وَيقُولُ مَرَّةً أُخْرَى: “اللهُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا” (2).
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “اشْتَدَّ غَضَبُ الله عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا هذا بنبِيِّهِ”، وهو حينئذ يُشِيرُ إلى رَبَاعِيَتِهِ ويقول: “اشْتَدَّ غَضَبُ الله عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ الله فِي سَبِيلِ الله” (3).
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَسْلُتُ عن نفسه الدَّمَ وَيَقُولُ: “كَيفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى الله”، فَأَنْزَلَ الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] (4).
وعن عبد الله بن مسعود قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: “اللهُمًّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ”ثم أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصعد على صخرة – ليجلس عليها- فلم يستطع – من شدة ما فيه من إصابات وإرهاق شديد- فَأَقْعَدَ النبي صلى الله عليه وسلم تَحْتَهُ طَلْحَةَ رضي الله عنه ثم صعِدَ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الصَّخْرَةِ، ثم قَالَ النَّبُيُّ صلى الله عليه وسلم: “أَوْجَبَ طَلْحَةُ” (1).
ثم أخذت فَاطِمَةُ رضي الله عنها تغسل الدم عن وجه أبيها صلى الله عليه وسلم وَعَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ يَسْكُبُ عَلَيْهَا بِالْمِجَنِّ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها أَنَّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً، أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهُ حَتَّى صَارَ رَمَادًا ثُمَّ أَلْصَقَتْهُ بِالْجُرْحِ فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ (2).

‌‌الله عز وجل يُهدِّىءُ من روع المؤمنين بالنعاس:
ثم أنزل الله عز وجل النعاس على المسلمين تهدئة لروعهم، وراحة لأجسادهم من عناء القتال. يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}عَنْ أبي طَلْحَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ تَغَشَّاهُ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى سَقَطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي مِرَارًا يَسْقُطُ وَآخُذُهُ وَيَسْقُطُ فَآخُذُهُ (1).
وبعد ذلك أشرف أبو سفيان بن حرب ونادى على المسلمين فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “لا تجِيبُوهُ”، فقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أبي قُحَافَةَ؟ -يعني أبا بكر- قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “لا تجِيبُوهُ”، فقال: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ لو كانوا أحياءً لأجابوا، فلم يمَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ فقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ الله أَبْقَي الله عليك ما يخزيك، قال أبو سفيان: اعْلُ هُبَلُ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: “أجِيبُوهُ”، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: “قُولُوا الله أَعْلَى وَأَجَلُّ”، قَالَ أبو سفيان: لنا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: “أجِيبُوهُ”، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: “قُولُوا الله مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ”، قَالَ أبو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ (2)، فَقَالَ عُمَرُ: لَا سَوَاءً، قَتْلَانَا في الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ في النَّارِ، قَالَ أبو سفيان: إِنَّكُمْ لَتَزْعُمُونَ ذَلِكَ، لَقَدْ خِبْنَا إِذَنْ وَخَسِرْنَا، ثُمَّ قَالَ أبو سُفْيَانَ: أَمَا إِنَّكُمْ سَوْفَ تَجِدُونَ في قَتْلَاكُمْ مُثْلًا (3)، وَلَمْ يَكُنْ ذَاكَ عَنْ رَأْيِ سَرَاتِنَا (4)، ثمَّ أَدْرَكَتْهُ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَانَ ذَاكَ وَلَمْ نَكْرَهْهُ.

‌‌النبي صلى الله عليه وسلم يتفقد الشهداء، ويرى عمه الحمزة رضي الله عنه وسطهم، ثم يأمر بدفنهم:
عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى حَمْزَةَ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ: “لَوْلَا أَنْ تَجِدَ صَفِيَّةُ في نَفْسِهَا لَتَرَكْتُهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الْعَافِيَةُ (1) حَتَّى يُحْشَرَ مِنْ بُطُونِهَا” ثم دعا بنمرة فكفنه فيها فكانت إذا مُدَّت على رأسه بدت رجلاه وإذا مدت على رجله بدا رأسه، وَقَلَّتْ الثِّيَابُ وَكَثُرَتْ الْقَتْلَى فَكَانَ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ يُكَفَّنُونَ في الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ يُدْفَنُونَ في قَبْرٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ عنهم: “أَيُّهُمْ أَكْثَرُ قُرْآنًا” فَيُقَدِّمُهُ إلى الْقِبْلَةِ (2).
وعَنْ أَنَسٍ أيضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِحَمْزَةَ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ غَيْرِهِ (3).
وعَنْ جَابِرِ بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَينِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: “أَيُّهُمْ أَكثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ ” فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ وَقَالَ: “أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ في دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ وعَن خَبَّابٍ بن الأرت رضي الله عنه قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَبْتَغِي وَجْهَ الله فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى الله فَمِنَّا مَنْ مَضَى أَوْ ذَهَبَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا كَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بن عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا نَمِرَةً (1) كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلَاهُ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيهِ الْإِذْخِرَ”، أَوْ قَالَ: “أَلْقُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِرِ” (2).
وقَالَ جابر رضي الله عنه: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ جَاءَتْ عَمَّتِي بِأبي لِتَدْفِنَهُ في مَقَابِرِنَا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم رُدُّوا الْقَتْلَى إلى مَضَاجِعِهِمْ (3).

‌‌حُزْن النبي صلى الله عليه وسلم علي الشهداء:
عَنْ جَابِرِ بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ أُحُدٍ: “أَمَا وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي غُودِرْتُ مَعَ أَصْحَابِ نُحْض الْجَبَلِ”.

‌‌النبي صلى الله عليه وسلم يثني علي ربه:
ولما انصرف العدو من الميدان قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: “اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي عز وجل” فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا، فَقَالَ: “اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ اللهمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَا أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللهمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ، وَرَحْمَتِكَ، وَفَضْلِكَ، وَرِزْقِكَ، اللهمَّ إِنِّي أَسْاَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللهمَّ إِنِّي أَسْاَلُكَ الْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللهمَّ إنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا، وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنا، اللهمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْاِيمَانَ وَزِيّنْهُ في قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنْ الرَّاشِدِينَ، اللهمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللهمَّ قَاتِلْ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ إِلَهَ الْحَقِّ آمين” (1).
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: “اللهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ لَا تُعبد في الْأَرْضِ” (2).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيَانَ، اللهمَّ الْعَنْ الْحَارِثَ بن هِشَامٍ، اللهمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ” فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128]. فَتَابَ الله عَلَيْهِمْ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ ولقد عفا الله عز وجل عن المؤمنين الذين فروا يوم أحد فأنزل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)} [آل عمران: 155].
وربط الله عز وجل من جأش المسلمين فقال: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)} [آل عمران: 139، 140].
وبعد أن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مرَّ بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُحُد، فلما نُعُوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى انظر إليه، قال: فأشير لها إليه، حتى إذا رأته، قالت: كل مصيبة بعدك جلل! تريد صغيرة (1).
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قال: مر رَسُولُ الله بنسَاءِ عبد الْأَشْهَلِ يَبْكِينَ هَلْكَاهُنَّ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ”، فَجَاءَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ يَبْكِينَ حَمْزَةَ، فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: “ويحَهُنَّ مَا انْقَلَبْنَ (2) بَعْدُ؟ مُرُوهُنَّ فَلْيَنْقَلِبْنَ، وَلَا يَبْكِينَ عَلَى هَالِكٍ بَعْدَ الْيَوْمِ”

بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أراد أن يطارد المشركين حتى لا يفكروا في العودة ومداهمة المدينة، فأرسل مناديًا ينادي في الناس بطلب العدو وأن لا يخرجن أحدٌ إلا أَحَد حضر أُحُد، وكان ذلك في اليوم التالي لغزوة أُحُد فخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم كل من شهد أحدًا، سوى جابر بن عبد الله خرج وهو لم يشهد أُحدًا، حيث تخلف عن أحُد لأن أباه خلفه على أخواته.
فسار جيش المسلمين حتى بلغ حمراء الأسد وهي على بعد حوالي عشرين كيلو جنوب المدينة المنورة، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فلم يلق أحدًا من المشركين، ووجدهم قد رجعوا إلى مكة، فأقام بها الاثنين، والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة (1).
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)} [آل عمران: 172] قَالَتْ لِعُرْوَةَ: يَا ابْنَ أُخْتِي كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمْ الزُّبَيْرُ، وَأبو بَكْرٍ لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مَا أَصابَ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا قَالَ: “مَنْ يَذْهَبُ في إِثْرِهِمْ؟ ” فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلاً، قَالَ: كَانَ فِيهِمْ أبو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ