أحداث السنة الثامنة من هجرة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم
Events of the eighth year of the Hijrah of the Messenger of Allah, Muhammad (peace and blessings of Allah be upon him)
عَنْ عَمْرُوِ بن الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا انْصَرَفْنَا مِنْ الْأَحْزَابِ عَنْ الْخَنْدَقِ جَمَعْتُ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا يَرَوْنَ رأيِي، وَيَسْمَعُونَ مِنِّي، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَعْلَمُونَ وَاللهِ إِنِّي لَأَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ يَعْلُو الْأُمُورَ عُلُوًّا مُنْكَرًا، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أمرًا، فَمَا تَرَوْنَ فِيهِ؟ قَالُوا: وَمَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ أَنْ نَلْحَقَ بِالنَّجَاشِيِّ فَنَكُونَ عِنْدَهُ، فَإِنْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى قَوْمِنَا كُنَّا عِنْدَ النَّجَاشِيّ، فَإِنَّا أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْهِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ ظَهَرَ قَوْمُنَا فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عُرِفَ، فَلَنْ يَأتِيَنَا مِنْهُمْ إِلَّا خَيْرٌ، قَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّأْيُ، قُلْتُ: لَهُمْ فَاجْمَعُوا لَهُ مَا نُهْدِيه لَهُ، وَكَانَ أَحَبَّ مَا يُهْدَى إِلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الْأَدَمُ فَجَمَعنَا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا، فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيهِ، فَوَاللهِ إِنَّا لَعِنْدَهُ إذْ جَاءَ عَمْرُو بن أمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ بَعَثَهُ إِلَيْهِ في شَأْنِ جَعْفرٍ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ لأصحابي: هَذَا عَمْرُو بن أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، لَوْ قَدْ دَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِيّ فَسَأَلْتُهُ إِيَّاهُ فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي قَدْ أَجْزَأْتُ عَنْهَا حِينَ قَتَلْتُ رَسُولَ مُحَمَّدٍ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَجَدْتُ لَهُ كَمَا كُنْتُ أَصنَعُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِصَدِيقِي، أَهْدَيْتَ لِي مِنْ بِلَادِكَ شَيْئًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، أَيُّهَا الْمَلِكُ قَدْ أَهْدَيْتُ لَكَ أُدْمًا كَثِيرًا، قَالَ: ثُمَّ قربته إِلَيْهْ، فَأَعْجَبَهُ وَاشْتَهَاهُ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنّي قَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ، وَهُوَ رَسُولُ رَجُلٍ عَدُوٍّ لَنَا، فَأَعْطِنِيهِ لِأَقْتُلَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ أَصَابَ مِنْ أَشْرَافِنَا وَخِيَارِنَا، قَالَ: فَغَضِبَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفَهُ ضَرْبَةً ظَنَنْتُ أَنْه قَدْ كَسَرَهُ، فَلَوْ انْشَقَّتْ لِي الْأَرْضُ لَدَخَلْتُ فِيهَا فَرَقًا مِنْهُ -خوفًا منه- ثُمَّ قُلْتُ له: أَيُّهَا الْمَلِكُ وَاللهِ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَكْرَهُ هَذَا مَا سَأَلْتُكَهُ، قَالَ: أَتَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَكَ رَسُولَ رَجُلِ يَأْتِيهِ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى لِتَقْتُلَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، أكَذَاكَ هُوَ؟ قَالَ: وَيْحَكَ يَا عَمْرُو أَطِعْنِي وَاتَّبِعْهُ، فَإِنَّهُ وَاللهِ لَعَلَى الْحَقِّ، وَلَيَظْهَرَنَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ، قَالَ. قُلْتُ: فَبَايِعْنِي لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: نَعَمْ، فَبَسَطَ يَدَهُ، فبَايَعْتُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ خَرَجْتُ إلى أصحابي وَقَدْ حَالَ رَأْيِ عَمَّا كَانَ عَلَيهِ، وَكَتَمْتُ أصحابي إِسْلَامِي، ثُمَّ خَرَجْتُ عَامِدًا إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لِأُسْلِمَ فَلَقِيتُ خَالِدَ بن الْوَلِيدِ، وَذَلِكَ قُبَيْلَ الْفَتْحِ، وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ، فَقُلْتُ: أَيْنَ يَا أَبَا سُلَيْمَانَ؟ قَالَ: وَاللهِ لَقَدْ اسْتَقَامَ الْمَنْسِمُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَنَبِيٌّ، أَذْهَبُ وَاللهِ فأُسْلِمُ، فَحَتَّى مَتَى؟ قَالَ: قُلْتُ: وَاللهِ مَا جِئْتُ إِلَّا لِأُسْلِمَ، فَقَدِمْنَا المدينة عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فَقَدِمَ خَالِدُ بن الْوَلِيدِ فَأَسْلَمَ وَبَايَعَ، ثُمَّ دَنَوْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي، وَلَا أَذْكُرُ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “يَا عَمْرُو بَايعْ، فَإنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا”، قَالَ: فَبَايَعْتُهُ ثُمَّ انْصَرَفْتُ
عَنْ جُنْدُبِ بن مَكِيثٍ الْجُهَنِيّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم غَالِبَ بن عبد الله الْكَلْبِيَّ كَلْبَ لَيْثٍ إلى بني مُلَوَّحٍ بِالْكَدِيدِ📍 🌍، وَأَمَرَهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ فَكُنْتُ في سَرِيَّتِهِ، فَمَضَيْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِقُدَيْدٍ، لَقِينَا بِهِ الْحَارِثَ بن مَالِكٍ وَهُوَ ابْنُ الْبَرْصَاءِ اللَّيْثِيُّ، فَأَخَذْنَاهُ فَقَالَ: إِنَّمَا جِئْتُ لِأُسْلِمَ، فَقَالَ غَالِبُ بن عبد الله: إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ مُسْلِمًا فَلَنْ يَضُرَّكَ رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيلَةٍ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ اسْتَوْثَقْنَا مِنْكَ، قَالَ: فَأَوْثَقَهُ رِبَاطًا ثُمَّ خَلَّفَ عَلَيْهِ رَجُلًا أَسْوَدَ كَانَ مَعَنَا، فَقَالَ: امْكُثْ مَعَهُ حَتَّى نَمُرَّ عَلَيْكَ، فَإِنْ نَازَعَكَ فَاجْتَزَّ رَأْسَهُ، قَالَ: ثُمَّ مَضَيْنَا حَتَّى أَتَيْنَا بَطْنَ الْكَدِيدِ فَنَزَلْنَا عُشَيْشِيَةً بَعْدَ الْعَصْرِ فَبَعَثَنِي أصحابي في رَبِيئَةٍ (1)، فَعَمَدْتُ تَلٍّ يُطْلِعُنِي عَلَى الْحَاضِرِ، فَانْبَطَحْتُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ الْمَغْرِبَ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَنَظَرَ فَرَآنِي مُنْبَطِحًا عَلَنى التَّلِّ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَاللهِ إِنِّي لَأَرَى عَلَى هَذَا التَّلِّ سَوَادًا مَا رَأَيْتُهُ أَوَّلَ النَّهَارِ فَانْظُرِي لَا تَكُونُ الْكِلَابُ اجْتَرَّتْ بَعْضَ أَوْعِيَتِكِ؟ قَالَ: فَنَظَرَتْ، فَقَالَتْ: لَا وَاللهِ مَا أَفْقِدُ شَيْئًا، قَالَ: فَنَاوِلِينِي قَوْسِي وَسَهْمَيْنِ مِنْ كِنَانَتِي، قَالَ: فَنَاوَلَتْهُ فَرَمَانِي بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ في جَنْبِي قَالَ فَنَزَعْتُهُ فَوَضَعْتُهُ وَلَمْ أَتَحَرَّكْ، ثُمَّ رَمَانِي بِآخَرَ، فَوَضَعَهُ في رَأْسِ مَنْكِبِي، فَنَزَعْتُهُ فَوَضَعْتُهُ وَلَمْ أَتَحَرَّكْ، فَقَالَ لِامْرَأتِهِ: وَاللهِ لَقَدْ خَالَطَهُ سَهْمَايَ وَلَوْ كَانَ دَابَّةً لَتَحَرَّكَ، فَإِذَا أَصْبَحْتِ فَابْتَغِي سَهْمَيَّ فَخُذِيهِمَا لَا تَمْضُغُهُمَا عَلَي الْكِلَابُ، قَالَ: وَأَمْهَلْنَاهُمْ حَتَّى رَاحَتْ رَائِحَتُهُمْ حَتَّى إِذَا احْتَلَبُوا وَعَطَنُوا أَوْ سَكَنُوا وَذَهَبَتْ عَتَمَة مِنْ اللَّيْلِ شَنَنَّا عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ، فَقَتَلْنَا مَنْ قَتَلْنَا مِنْهُمْ وَاسْتَقْنَا النَّعَمَ فَتَوَجَّهْنَا قَافِلِينَ وَخَرَجَ صَرِيخُ الْقَوْمِ إلى قَوْمِهِمْ مُغَوِّثًا، وَخَرَجْنَا سِرَاعًا حَتَّى نَمُرَّ بِالْحَارِثِ ابْنِ الْبَرْصَاءِ وَصَاحِبِهِ، فَانْطَلَقْنَا بِهِ مَعَنَا، وَأَتَانَا صَرِيخُ النَّاسِ، فَجَاءَنَا مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ إِلَّا بَطْنُ الْوَادِي، أقْبَلَ سَيْلٌ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بَعَثَهُ الله تَعَالَى مِنْ حَيْثُ شَاءَ مَا رَأيْنَا قَبْلَ ذَلِكَ مَطَرًا وَلَا حَالاً، فَجَاءَ بِمَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ، فَلَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ وُقُوفًا يَنْظُرُونَ إِلَينَا، مَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ تتَقَدَّمَ، وَنَحْنُ نُحَوِّزُهَا سِرَاعًا حَتَّى أَسْنَدْنَاهَا في الْمَشْلَلِ، ثُمَّ حَدَرْنَاهَا عَنَّا، فَأَعْجَزْنَا الْقَوْمَ بمَا في أَيْدِينَا
سرية غالب بن عبد الله الليثي أيضًا إلى مُصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك في صفر سنة ثمان. بعث – رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله في مائتي رجل، وخرج أسامة بن زيد فيها، حتى انتهى إلى مصاب أصحاب بشير، وخرج معه عُلبة بن زيد فيها، فأصابوا منهم نعمًا، وقتلوا منهم قتلى
سرية عامر بن وهب الأسدي إلى بني عامر بالسيء، في شهر ربيع الأول سنة ثمان.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلاً إلى جمع من هوازن بالسيء ناحية رُكْبة، من وراء المعدن، وهي من المدينة على خمس ليال، وأمره أن يغير عليهم، فكان يسير الليل ويكمن النهار، حتى صبَّحهم وهم غارُّون، فأصابوا نعمًا كثيرًا وشاءً، واستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة واقتسموا الغنيمة، وكانت سُهمانهم خمسة عشر بعيرًا، وعدلوا البعير بعشر من الغنم، وغابت السرية خمس عشرة ليلة
سرية كعب بن عُمير الغفاري إلى ذات أطلاح – وهي من وراء وادي القرى – في شهر ربيع الأول سنة ثمان.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلاً، حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام، فوجدوا جمعًا من جمعهم كثيرًا، فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم ورشقوهم بالنبل، فلما رأى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلوهم أشدَّ القتال، حتى قُتِلوا، وأفلت منهم رجل جريح في القتلى، فلم يرد عليه الليل، تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فشقَّ ذلك عليه، وهَمّ بالبعثة إليهم، فبلغه أنهم قد ساروا إلى موضع آخر فتركهم
وسرية زيد بن حارثة إلى مدين، ذكر ذلك عبد الله بن حسن بن حسن، عن أمه فاطمة ابنة الحسين بن علي – عليهم رضوان الله-، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث زيد بن حارثة نحو مدين، ومعه ضُمرة مولى علي بن أبي طالب – رضوان الله عليه – وأخ له، قالت: فأصاب سبيًا من أهل ميناء، وهي السواحل وفيها جُمَّاع من الناس، فبيعوا ففرق بينهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون، فقال: “ما لهم؟ “، فقيل يا رسول الله، فُرّق بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تبيعوهم إلا جميعًا”.
أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد عمرة القضاء بقية شهر ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، والثاني، وبعث في جمادى الأولى جيشًا إلى الشام، قوامه ثلاثة آلاف مقاتل (1).
وكانت هذه القبائل من بلاد الشام موالية للإمبراطورية الرومية البيزنطية وخاضعة تحت سيطرتها وكان هذا هو أول احتكاك للمسلمين بهذه الإمبراطورية العظيمة أو لقبائل موالية لها.
وعين زَيْدَ بن حَارِثَةَ رضي الله عنه قائدًا للجيش وقَالَ: إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ بن أبي طالب، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعبد الله بن رَوَاحَةَ (2).
ومضى الجيش حتى نزل مَعان من أرض الشام، فبلغ الناس أنَّ هرقل قد نزل مآب، من أرض البلقاء، في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجزام والقَيْن وبهراء وبليٍّ مائة ألف أخرى، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره، فنمض له، فشجع الناس عبد الله بن رواحة، وقال؛ يا قوم والله إن التي تكرهون لَلَّتي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة، فقال الناس قد والله صدق ابن رواحة، فمضى الناس، حتى إذا كانوا بتَخوم البلقاء (1) لقيتهم جموع هرقل، من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء يقال لها: مشارف، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبأ لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عُذْرة، يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له: عَبَاية بن مالك، ثم التقى الناس واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط (2) في رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، ثم أخذ يقاتل وهو يقول:
يا حَبَّذا الجنةُ واقْترابُها … طيِّبةً وباردًا شرابُها
والرومُ رومٌ قد دنا عذابُها .. كافرةٌ بعيدةٌ أنسابُها
عليَّ إذ لاقيتُها ضِرابُها
ثم قاتل رضي الله عنه حتى قُتل، ويقال أنه أخذ الراية بيمينه، فقُطِعت يمينه، فأخذها بشماله فقُطِعت، فاحتضنها بعضديه حتى قُتِل رضي الله عنه ، فأثابه الله جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء.
ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، وتقدَّم بها وهو على فرسه، فجعل يتردَّد بعض الشيء ثم قال:
أقْسَمتُ يا نفسُ لتنزلنَّهْ … لتَنْزلنْ أوْ لَتُكرهَنَّهْ
إنْ أجْلَبَ الناسُ وشدُّوا الرنَّهْ (3) … ماليْ أَراكِ تكرهين الجنة قد طالما قد كنتِ مُطْمئنه … هل أنتِ إلا نطفة في شَنَّه (1)
وقال أيضًا:
يا نفسُ إلا تُقْتلي تموتي … هذا حِمامُ الموتِ قد صليتِ
وما تمنَّيت فقد أعْطيتِ … إن تفعلي فعلهما هديتِ
يريد صاحبيه: زيدًا وجعفرًا، ثم نزل، فلما نزل أتاه ابن عم له بعَرْق (2) من لحم فقال: شُدَّ بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذا ما لقيت، فأخذه من يده ثم انتهش (3) منه نهشة، ثم سمع الحَطْمَة (4) في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا، ثم ألقاه من يده، ثم أخذ بسيفه فتقدم، فقاتل حتى قُتِل.
فلما قُتل القوَّاد الثلاثة رضي الله عنهم أخذ الراية ثابت بن أرقم رضي الله عنه ، ثم قال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، وعند الطبراني أن ثابت أعطى الراية خالد وقال: أنت أعلم بالقتال مني.
فلما أخذ الراية دافع وانحاز بالمسلمين حتى انصرف وكان انسحابًا منظمًا لم يُلحق بالمسلمين خسائر كثيرة، بل لم يستشهد من المسلمين في المعركة كلها سوى ثلاثة عشر صحابيًا فقط – كما ذكر أهل المغازي – واستحق خالد رضي الله عنه لقب: سيف الله، الذي منحه إياه الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر مَنْ بالمدينة خبر المعركة، ومقتل قادة المسلمين الثلاثة، وأخذ خالد رضي الله عنه الراية، ثم انسحابه، وهو يبكي صلى الله عليه وسلم وعيناه تذرفان.
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قال نَعَى النبي صلى الله عليه وسلم زَيْدًا، وَجَعْفَرًا، وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقَالَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ الله حَتَّى فَتَحَ الله عَلَيْهِمْ (1).
وهذه من معجزاته صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر الناس خبر القوم قبل أن يأتيه الرسول بالخبر، وقد سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم انسحاب خالد رضي الله عنه المنظم بالجيش فتحًا، وإنما ذلك لما أوقعه المسلمون بالروم من خسائر رغم تفوقهم العددي الكبير (2).
بعض الأحداث المتعلقة بالغزوة:
عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى جَعْفَرٍ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ قَتِيلٌ، قال: فَعَدَدْتُ بِهِ خَمْسِينَ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ لَيْسَ مِنْهَا شَيْء في دُبُرِهِ – يَعْنِي: في ظَهْرِهِ (3).
وفي رواية أن ابن عمر قال: فَالْتَمَسْنَا مَا في جَسَدِهِ بِضْعًا وَتِسْعِينَ مِنْ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ (4).
والظاهر هنا -والله أعلم- أَنَّ الْعَدَدَ ليس بمَفْهُوم؛ وإنما أراد ابن عمر رضي الله عنه أن يُكنّى عن كثرة الطعنات وَقَوْله ابن عمر رضي الله عنه: لَيْسَ مِنْهَا شَيْء في دُبُرِهِ، بَيَان فَرْطِ شَجَاعَتِهِ وَإِقْدَامِهِ رضي الله عنه (1).
وعن خَالِدِ بن الْوَلِيدِ رضي الله عنه قال: لَقَدْ انْقَطَعَتْ فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، وصبرتْ في يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ (2).
قال ابن حجر رحمه الله -:
وَهَذَا الْحَدِيث يَقْتَضِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَتَلُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَثِيرًا. اهـ (3).
وكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا حَيَّا ابْنَ جَعْفَرٍ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ ذِي الْجَنَاحَيْنِ (4).
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: لَمَّا جَاءَ قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرِ بن أبي طَالِبٍ، وَعبد الله بن رَوَاحَةَ رضي الله عنهم جَلَسَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَأَنَا أَطَّلِعُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ -تَعْنِي: مِنْ شَقِّ الْبَابِ- فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ الله إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، قَالَ: وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، قَالَ: فَذَهَبَ الرَّجُلُ، ثُمَّ أَتَى فَقَالَ: قَدْ نَهَيْتُهُنَّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُطِعْنَهُ، قَالَ: فَأَمَرَ أَيْضًا، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَى، فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ غَلَبنَنَا، فَزَعَمَتْ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَاحْثُ في أَفْوَاهِهِنَّ مِنْ التُّرَابِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَرْغَمَ الله أَنْفَكَ، فَوَاللهِ مَا أَنْتَ تَفْعَلُ، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الْعَنَاءِ وعَنْ النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عبد الله بن رَوَاحَةَ، فْجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي وَا جَبَلَاهْ، وَا كَذَا وَا كَذَا، تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي: آنْتَ كَذَلِكَ؟ فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ (1).
وعَنْ عبد الله بن جَعْفَرٍ رضي الله عنهما قَالَ: لما جاء نعي جعفر، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم “اصْنَعُوا لآِلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَإنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ ما يشغلهم – أو أمْرٌ شَغَلَهُمْ”
جهز النبي صلى الله عليه وسلم هذه السرية لتأديب قُضاعة، التي غرَّها ما حدث للمسلمين في مؤتة فتجمعت للإغارة على المدينة، فعلم بهم النبي صلى الله عليه وسلم فجهَّز جيشًا قوامه ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه.
ومضى الجيش يسير الليل ويكمن النهار حتى إذا قرب من القوم بلغه أن لهم جمعًا كثيراً، فبعث عمرو رضي الله عنه رافعَ بن مَكيث الجهني إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمدَّه، فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم أبا عُبيدة بن الجراح في مائتين فيهم أبو بكر وعمر، وعقد له لواءً.
ونزل الجيش على ماء لقبيلة جذام يقال له: السلسل.
وبذلك سُمِّيت ذات السلاسل، وقيل سُمِّيت بذلك لأن المشركين ارتبط بعضهم ببعض مخافة أن يفروا- وهذا المكان الذي نزلوا فيه بينه وبين المدينة عشرة أيام.
فحمل المسلون عليهم فهربوا في البلاد، وتفرقوا، وبعث عمرو عوفَ بن مالك الأشجعي بريدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقفولهم وسلامتهم وما كان في غزاتهم
يقول عَمْرُوبن الْعَاصِ رضي الله عنه: احْتَلَمْتُ في لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ في غَزْوَةِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ، فَأَشْفَقْتُ إِنْ اغْتَسَلْتُ فأَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأصحابي الصُّبْحَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:”يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ “، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنْ الِاغْتِسَالِ، وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ الله يَقُولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فضَحِكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا
سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى خضرة، وهي أرض مُحارب بنجد في شعبان سنة ثمان، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة، ومعه خمسة عشر رجلاً إلى غطفان، وأمره أن يشنَّ عليهم الغارة، فسار الليل وكمن النهار، فهجم على حاضر منهم عظيم، فأحاط به، فصرخ رجل منهم: يا خضرة! وقاتل منهم رجال، فقتلوا من أشراف لهم، واستاقوا النعم، فكانت الإبل مائتي بعير والغنم ألفي شاة، وسَبَوْا سبيًا كثيرًا، وجمعوا الغنائم، وغابوا في هذه السرية خمس عشرة ليلة (1).
عَنْ عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ فَكُنْتُ فِيهَا، فَبَلَغَتْ سِهَامُنَا اثْنَي عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلْنَا بَعِيرًا بَعِيرًا، فَرَجَعْنَا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا
عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلميِّ قال: تزوجتُ امرأة من قومي فأصدقتها مائتي درهم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على نكاحي، فقال: “وكم أصدقْتَ؟ ” قلت: مائتي درهم يا رسول الله قال:”سبحان الله، لو كنتم إنما تأخذون الدراهم من بطن واد ما زدتُم! والله ما عندي ما أعينك به”.
قال: فلبثتُ أيامًا، وأقبل رجل من بني جُشم بن معاوية يقال له رفاعة بن قيس، أو قيس بن رفاعة في بطن عظيم من جُشم، حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة، يريد أن يجمع قيسًا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وكان ذا اسم وشرف في جُشم، قال: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين من المسلمين فقال: اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتونا به أو تأتونا منه بخبر وعلم، قال: وقدم لنا شارفًا عَجْفاء، فحُمل عليها أحدنا، فوالله ما قامت به ضعفًا، حتى دعَمَها الرجالُ من خلفها بأيديهم حتى استقلت، وما كادت، ثم قال: تبلغوا على هذه واعتقُبوها.
قال فخرجنا ومعنا سلاحُنا من النبل والسيوف، حتى جئنا قريبًا من الحاضر عُشَيْشِيَة مع غروب الشمس، فكمنتُ في ناحية، وأمرتُ صاحَبيِّ فكمنا في ناحية أخرى من حاضر القوم وقلتُ لهما: إذا سمعتماني قد كبَّرْتُ وشددتُ على العسكر، فكَبِّرَا وشُدَّا معي، قال: فوالله إنا لكذلك ننتظر أن نرى غِرَّة أو نُصيب منهم شيئًا، غَشِيَنا الليل حتى ذهَبتْ فحمةُ العشاء، وقد كان لهم راع قد سرح في ذلك البلد، فأبطأ عليهم حتى تخوفوا عليه، قال: فقام صاحبهم ذلك رفاعة بن قيس، فأخذ سيفه فجعله في عنقه، ثم قال: والله لأتبعن أثر راعينا هذا ولقد أصابه شر، فقال نفر ممن معه: والله لا تذهب، نحن نكفيك. فقال: والله لا يذهب إلا أنا. قالوا: فنحن معك. قال: والله لا يتبعني منكم أحد، قال: وخرج حتى مر بي، فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده، فوالله ما تكلم، ووثبت إليه فاحترزتُ رأسه، ثم شددت في ناحية العسكر وكبرت، وشد صاحباي وكبرا، فوالله ما كان إلا النجاء ممن كان فيه عندك، بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم وما خف معهم من أموالهم. قال: فاستقنا إبلاً عظيمة وغنمًا كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجئت برأسه أحمله معي. قال: فأعانني رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الإبل بثلاثة عشر بعيرًا، فجمعت إليَّ أهلي.
وأما الواقدي، فذكر أن محمَّد بن سهل بن أبي حَثْمَة حدثه عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ابن أبي حَدْرَد في هذه السرية مع أبي قتادة، وأن السرية كانت ستة عشر رجلاً، وأنهم غابوا خمس عشرة ليلة، وأن سهمانهم كانت اثني عشر بعيرًا يُعْدَلُ البعير بعشر من الغنم وأنهم أصابوا في وجوههم أربع نسوة، فيهن فتاة وضيئة، فصارت لأبي قتادة، فكلم محمية بن الجزء فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة عنها فقال: اشتريتها من المغنم، فقال: هَبْها لي، فوهبها له، فأعطاها رسول الله محميةَ بن جزء الزُّبَيْديّ
كما تقدم في صلح الحديبية كان من بنود المعاهدة بين المسلمين والمشركين أنه من أراد أن يدخل في حلف المسلمين وعهدهم دخل فيه ومن أراد أن يدخل في حلف قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أيِّ من الفريقين تعتبر جزءًا من هذا الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدوانًا على ذلك الفريق، وأن خزاعة دخلت في حلف المسلمين، ودخلت بنو بكر في حلف المشركين.
ثم كان من أمر القبيلتين أنه كان بينهما ثأر قديم قبل تلك المعاهدة، فغدرت بنو بكر بخزاعة ولم تحترم المعاهدة، فوثبوا على خزاعة ليلاً بماء يقال له: الوتير، وهو قريب من مكة، وقالت قريش: ما يعلم بنا محمَّد وهذا الليل وما يرانا أحد، فأعانوهم عليهم بالسلاح وقاتل معهم من قاتل بالليل مُستخفيًا،حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل بن معاوية -وهو قائد الجيش- إنا قد دخلنا الحرم! إلهك إلهك فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم، ثم قال: يابني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟! ولجأت خزاعة إلى دار بُديل بن ورقاء بمكة، وإلى دار مولى له يقال له رافع.
وركب عمرو بن سالم الخزاعيُّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره الخبر، فوقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم وأنشد يقول:
لاهُمَّ إني ناشد محمدا … حلف أبينا وأبيه الأتلدا (1)
فانصر هداك الله نصرًا أَعْتدا … وادع عباد الله يأتوا مدد (2)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”نصرت يا عمرو بن سالم” وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز، وكتمهم مخرجه، وسأل الله أن يعمي على قريش خبره، حتى يبغتهم في بلادهم
قال ابن إسحاق رحمه الله -:
ثم خرج بُديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة.
ومضى بُديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعُسْفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشدَّ العقد، ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذي صنعوا، فلما لقي أبو سفيان بُديل بن ورقاء، قال: من أين أقبلت يا بُديل؟ ظنَّ أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: تسيرتُ في خزاعة في هذا الساحل، وفي بطن هذا الوادي، قال: أو ما جئت محمدًا؟ قال: لا، فلما راح بُديل إلى مكة، قال: أبو سفيان: لئن كان جاء بُديل المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها ففتَّه، فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بُديل محمدًا. ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم -المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يابنيَّة ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس، ولم أُحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله لقد اصابك يابنيَّة بعدي شر، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئًا، ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر (1) لجاهدتكم به، ثم خرج فدخل على عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها حسن بن عليّ غلام يدبُّ بين يديها فقال: يا عليّ إنك أمسّ القوم بي رحمًا، وإني جئت في حاجة فلا ترجعني كما جئت خائبًا فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما تستطيع أن تكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال: يا ابنة محمَّد هل لك أن تأمري بنيَّك هذا فيجير بين الناس فيكون سيِّد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بنيَّ ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني، قال: والله ما أعلم لك شيئًا يغني عنك شيئًا، ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مُغْنيًا عني شيئًا؟ قال: لا والله ما أظنه ولكني لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق، فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدًا فكلمته، فوالله لم يردَّ علىَّ شيئًا، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد منه خيرًا، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى العدو، ثم جئت عليًّا فوجدته ألين القوم، وقد أشار عليَّ بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئًا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال أمرني أن أُجير بين الناس ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمَّد؟ قال: لا، قالوا: ويلك! والله إن زاد الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت، قال: لا والله ما وجدت غير ذلك.
عَنْ جَابِرِ بن عبد الله رضي الله عنهما أَنَّ حَاطِبَ بن أبي بَلْتَعَةَ كَتَبَ إلى أَهْلِ مَكَّةَ، يَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَرَادَ غَزْوَهُم، فَدُلَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي مَعَهَا الْكِتَابُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَأُخِذَ كِتَابُهَا مِنْ رَأْسِهَا، وَقَالَ: “يَا حَاطِبُ أَفَعَلْتَ؟ “، قَالَ:نَعَمْ، أَمَا إِنِّي لَمْ أَفْعَلْهُ غِشًّا لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَلَا نِفَاقًا، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الله مُظْهِرٌ رَسُولَهُ وَمُتِمٌّ لَهُ أَمْرَهُ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ عَزِيزًا بَيْنَ ظَهْرِيهِمْ، وَكَانَتْ وَالِدَتِي مِنْهُمْ فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَّخِذَ هَذَا عِنْدَهُمْ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَلَا أَضْربُ رَأْسَ هَذَا؟ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَتَقْتُلُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الله عز وجل قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ” (1).
وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بَعَثَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ، فَقَالَ:”انْطَلِقُواحَتَّى تَأتُوا رَوْضَةَ خَاخ فَإنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوا مِنْهَا”، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بنا خَيْلُنَا حَتَّى أتَيْنَا الرَّوْضَةَ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، قُلْنَا لَهَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، قَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، قَالَ: فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَينَا بِهِ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بن أبي بَلْتَعَةَ إلى نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:”يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ “، قَالَ: يَا رَسُولَ الله لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قُرَيْشٍ، يَقُولُ: كُنْتُ حَلِيفًا وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِيني، وَلَاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:”أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ”، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ: “إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الله اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ”، فَأَنْزَلَ الله السُّورَةَ: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}
قال ابن سعد رحمه الله -:
قالوا: لما هَمَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم -بغزوة أهل مكة بعث أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفر سرية إلى بطن إضَم، وهي فيما بين ذي خُشُب وذي المروة، وبينها وبين المدينة ثلاثة بُرَد، ليظنَّ ظانٌّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار، وكان في السرية مُحَلِّم بن جثَّامة الليثي، فمرَّ عامر بن الأضبط الأشجعي، فسلَّم بتحية الإِسلام، فأمسك عنه القوم، وحمل عليه محلِّم بن جثامة فقتله وسلبه متاعه وبعيره ووطْب لبن (2) كان معه، فلما لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم نزل فيه القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} [النساء: 94] فمضوا فلم يلقوا جمعًا، فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذي خُشُب، فبلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجَّه إلى مكة، فأخذوا على بين (3)، حتى لقوا النبي صلى الله عليه وسلم بالسُّقيا
عَنْ عبد الله بن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ في رَمَضَانَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، فَسَارَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلى مَكَّةَ (1).
وقد تكتم النبي صلى الله عليه وسلم الخبر وحرص على السرية التامة، حتى لا يصل الخبر لقريش فيستعدوا له.
عن عائشة رضي الله عنها أنَّ أبا بكر دخل عليها وهي تُغربل حِنطة، فقال: ما هذا؟ أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز؟ قالت: نعم فتجهزْ، قال: وإلى أين؟ قالت: ما سمَّى لنا شيئًا، غير أنه قد أمرنا بالجهاز (2).
واستخلف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا رهم كلثوم بن حُصين بن عتبة بن خلف الغفاريَّ
كان العباس بن عبد المطلب لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق قال ابن هشام رحمه الله -:
لقيه بالجحفة مهاجرًا بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيمًا بمكة على سقايته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راضٍ.
كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أبي أمية قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا بنيق العُقاب، فيما بين مكة والمدينة، والتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فيهما- وهي أخت عبد الله بن أبي أمية- فقالت: يا رسول الله ابن عمك، وابن عمتك وصهرك، قال:”لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة ما قال” فلما خرج إليهما الخبر بذلك ومع أبي سفيان بنيّ له، فقال: والله ليأذننَّ لي أو لآخذنَّ بيد بنيَّ هذا، ثم لنذهبنَّ في الأرض حتى نموت عطشًا وجوعًا، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم رق لهما، ثم أذن لهما فدخلا عليه فأسلما (2).
ولقيه مخرمة بن نوفل بنيق العُقاب أيضًا
عن عروة بن الزبير قَالَ: لَمَّا سَارَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا،خَرَجَ أبو سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، وَحَكِيمُ بن حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بن وَرْقَاءَ يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلُوَا يَسِيرُونَ حَتَّى أَتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ، فَإِذَا هُمْ بنيرَانٍ كَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ، فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: مَا هَذِهِ؟ لَكَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ، فَقَالَ بُدَيْلُ بن وَرْقَاءَ: نِيرَانُ بني عَمْرٍو، فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: عَمْرٌو أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، فَرَآهُمْ نَاسٌ مِنْ حَرَسِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَأَدْرَكُوهُمْ فَأَخَذُوهُم فَأَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ أبو سُفْيَانَ (1).
وفي رواية: عن عروة أن حكيم بن حزام وبُديل بن ورقاء ذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي سفيان فأسلما (2).
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَ النبي صلى الله عليه وسلم بمَرِّ الظَّهْرَانِ، قَالَ الْعَبَّاسُ: وَاللهِ لَئِنْ دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ عَنْوَةً قَبلَ أَنْ يَأْتُوهُ فَيَسْتَأْمِنُوة إِنَّهُ لَهَلَاكُ قُرَيْشٍ، فَجَلَسْتُ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: لَعَلِّي أَجِدُ ذَا حَاجَةٍ يَأْتِي أَهْلَ مَكَّةَ، فَيُخْبِرُهُمْ بِمَكَانِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لِيَخْرُجُوا إِلَيْهِ، فَيَسْتَأْمِنُوهُ فَإِنِّي لَأَسِيرُ إِذْ سَمِعْتُ كَلَامَ أبي سُفْيَانَ، وَبُدَيْلِ بن وَرْقَاءَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا حَنْظَلَةَ، فَعَرَفَ صَوْتِي، فَقَالَ: أبو الْفَضْلِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: مَا لَكَ فِدَاكَ أبي وَأُمِّي؟! قُلْتُ: هَذَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ، قَالَ: فَمَا الْحِيلَةُ؟ قَالَ: فَرَكِبَ خَلْفِي وَرَجَعَ صَاحِبُهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَوْتُ بِهِ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ، فقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ هَذَا الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا، قَالَ: “نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارَ أبي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيهِ دارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ”، قَالَ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إلى دُورِهِمْ وإلَى الْمَسْجِدِ (3).
فقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ:”احْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ خطم الجبل حَتَّى يَنْظُرَ إلى الْمُسْلِمِينَ”، فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ، فَجَعَلَتْ الْقَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، تَمُرُّ كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أبي سُفْيَانَ، فَمَرَّتْ كَتِيبَةٌ، قَالَ: يَا عَبَّاسُ مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَذِهِ غِفَارُ، قَالَ: مَا لِي وَلِغِفَارَ، ثُمَّ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ، قَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَرَّتْ سَعْدُ بن هُذَيْمٍ، فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَرَّتْ سُلَيْمُ، فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا، قَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ عَلَيْهِمْ سَعْدُ بن عُبَادَةَ مَعَهُ الرَّايَةُ، فَقَالَ سَعْدُ بن عُبَادَةَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ، فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: يَا عَبَّاسُ حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ (1)، ثُمَّ جَاءَتْ كَتِيبَةٌ وَهِيَ أَقَلُّ الْكَتَائِبِ فِيهِمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، وَرَايَةُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَعَ الزُّبَيرِ بن الْعَوَّامِ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِأبي سُفْيَانَ، قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بن عُبَادَةَ؟ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَا قَالَ؟ “، قَالَ: كَذَا وَكَذا، فَقَالَ: “كَذَبَ سَعْدٌ (2)، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ الله فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ”، قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ تُرْكَزَ رَايَتُة بِالْحَجُونِ (3).
وقيل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الراية من سعد بن عبادة فدفعها إلى ابنه قيس، ثم كلم سعد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الراية من ابنه قيس مخافة أن يقع في خطأ، فأخذها منه.
عَنْ جَابِرِ بن عبد الله رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتحِ إلى مَكَّةَ في رَمَضانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: “أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ”.
وفي رواية: أنه قِيلَ للنبى صلى الله عليه وسلم: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصرِ (1).
ولَمْ يَزَلْ النبي صلى الله عليه وسلم مُفْطِرًا حَتَّى انْسَلَخَ الشَّهْرُ (2).
وعن أنس: لَمَّا اسْتَوَى النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَاءٍ عَلَى رَاحَتِهِ أَوْ رَاحِلَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ إلى النَّاسِ، فَقَالَ الْمُفْطِرُونَ لِلصُّوَّامِ: أَفْطِرُوا.
ثم جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشه استعدادًا لدخول مكة، فقسم الجيش وجعل خالد بن الوليد رضي الله عنه على المَجنِّبة اليمنى، والزبير بن العوام رضي الله عنه على المَجنِّبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه على الرجالة الذين هم في آخر الجيش ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أَبَا هُرَيْرَةَ أن يجمع له الْأَنْصَارَ، فَجَاءُوا يُهَرْوِلُونَ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: “يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ هَلْ تَرَوْنَ أَوْبَاشَ قُرَيْشٍ (1)؟ “، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: “انْظُرُوا إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ غَدًا أَنْ تَحْصُدُوهُمْ حَصْدًا”، ثم قال بيده -أي: أشار- وَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ (2).
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يأخذ بطن الوادي أسفل مكة (3)، وقام بتوزيع الزبير بن العوام وأبا عبيدة رضي الله عنهما (4).
وسار النَّبِي صلى الله عليه وسلم ناحية كَدَاءٍ (5) الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ (6)، وواعدهم أن يوافوه عند جبل الصفا، وَقَالَ: “مَوْعِدُكُمْ الصَّفَا”.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه فَانْطَلَقْنَا، فَمَا شَاءَ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا شَيْئًا (7).
ويُذكر أنَّ صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو جمعوا ناسًا بمكان يقال له: الخندمة؛ ليقاتلوا، وكان رجل اسمه حِماس بن قيس بن خالد يُعدُّ سلاحًا قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم ويصلح منهم، فقالت له: امرأته: لماذا تُعدُّ ما أرى؟ قال لمحمد وأصحابه، قالت: والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء، قال: والله إني لأرجوا أنْ أُخْدمَكِ بعضهم (1)، ثم أنشد يقول:
إنْ يُقبِلوا اليوم فما لي عِلَّهْ … هذا سلاحٌ كاملٌ وأَلَّهْ (2)
وذو غِرارين سريع السَّلَّة (3)
ثم شهد حِماس هذا الخندمة مع صفوان وعكرمة وسهيل ومن معهم، فهزمهم المسلمون، وقتلوا منهم (4)، وفرَّ حماس هذا حتى دخل بيته، ثم قال لامرأته: أغلقي علىَّ بابي، قالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال:
إنكِ لوشهدتِ يومَ الخندمة … إذ فرَّ صفوانُ وفرَّ عِكرمهْ
وأبو يزيد قائمٌ كالمؤتمهْ (5) … واستقبلتهم بالسيوف المسلمة
يَقْطَعْنَ كلَّ ساعدٍ وَجُمْجُمهْ … ضربًا فلا يُسْمعُ إلا غَمغَمة (6)
لهم نَهيتٌ خَلْفَنا وهَمْهَمَهْ … لم تنطقي في اللَّوم أدنى كلمة وقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدٍ يَوْمَئِذٍ رَجُلَانِ، هما: حُبَيْشُ بن الْأَشْعَرِ، وَكُرْزُ بن جابِرٍ الْفِهْرِيُّ (1).
ودَخَلَ النبي صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ فاتحًا منتصرًا دون أدنى مقاومة تُذكر، وَكان على رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ (2)، وكانت رَايَةَ النبي صلى الله عليه وسلم حين دخوله سَوْدَاءَ، وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضُ (3)، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مَكَّةَ عَلَى نَاقَتِهِ، وَهُوَ يَقْرَأ سُورَةَ الْفَتْحِ يُرَجِّعُ (4). وكان مُردِفًا أُسَامَةَ بن زَيْدٍ، وَمَعَهُ بِلَالٌ، وَمَعَهُ عُثْمَانُ بن طَلْحَةَ مِنْ الْحَجَبَةِ (5)، حَتَّى أَنَاخَ النبي صلى الله عليه وسلم في الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَ عثمان بن طلحة أَنْ يَأْتِيَ بِمِفْتَاحِ الْبَيْتِ، فَدَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ أُسَامَةُ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بن طلحة، فَمَكَثَ فِيهَا نَهَارًا طَوِيلاً، ثُمَّ خَرَجَ، فَاسْتَبَقَ النَّاسُ، وَكَانَ عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ، فَوَجَدَ بِلَالًا وَرَاءَ الْبَابِ قَائِمًا، فَسَأَلَهُ: أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: جعل عمودين عن يساره، وعمودًا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى وعن عمر رضي الله عنه أنه صَلَّى ركْعَتَيْنِ (1).
وقام النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بالدَعَاء في نَوَاحِيهِا كُلِّهَا (2).
ولم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت، ولم يُصل فيه إلا بعد أن طهره من كل مظاهر الشرك، من أوثان وصور وغير ذلك.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحطيم الأصنام، وتطهير البيت الحرام منها، وشارك هو بنفسه في ذلك.
وَكان حَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُ مِائَةِ صنم، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ في يَدِهِ، وَيَقُولُ: “جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيد” (3).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، كَانُوا يَعْبُدُونَهُ وَفِي يَدِه قَوْسٌ، وَهُوَ آخِذٌ بِسِيَةِ الْقَوْسِ (4)، فَلَمَّا أَتَى عَلَى الصَّنَمِ جَعَلَ يَطْعُنُهُ في عَيْنِهِ، وَيَقُولُ: “جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ” (5).
وفي رواية: عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يطعنها وهو يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا {يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)} [سبأ: 49] (1).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: دخلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا تُعبد من دون الله قال: فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكُبَّت كلها لوجوهها، ثم قال: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء: 81]، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فصلى ركعتين، فرأى فيه تمثال إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وقد جعلوا في يد إبراهيم الأزلام يستقسم بها (2)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قاتلهم الله، ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام” ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزعفران فلطخه بتلك التماثيل (3).
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا دخل مَكَّةَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الْآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، فَأُخرِجَ صُورَةُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْمَاعِيلَ في أَيْدِيهِمَا مِنْ الْأَزْلَامِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “قَاتَلَهُم الله لَقَدْ عَلِمُوا مَا اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ” (4).
وعن صفية بنت شيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مكة، واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعًا على راحلته، يستلم الركن بمِحْجَن (1) في يده، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففُتحت له، فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكفَّ (2) له الناس في المسجد (3).
وعن جَابِر بن عبد الله رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَ عُمَرَ بن الْخَطَّاب رضي الله عنه زَمَنَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، أَنْ يَأْتِيَ الْكَعْبَةَ فَيَمْحُوَ كُلَّ صُورَةٍ فِيهَا، فلَمْ يَدْخُلْها النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى مُحِيَتْ كُلُّ صُورَةٍ فِيهِا.
وفي رواية: فَبَلَّ عُمَرُ ثَوْبًا وَمَحَاهَا بِهِ (4).
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ فَوَجَدَ فِيهِ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ، وَصُورَةَ مَرْيَمَ، فَقَالَ: “أَمَا لَهُمْ فَقَدْ سَمِعُوا أنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيتًا فِيهِ صُورَةٌ، هَذَا إِبْرَاهِيمُ مُصَوَّرٌ فَمَا لَهُ يَسْتَقْسِمُ” (5).
وهكذا تم تطهير البيت العتيق من مظاهر الوثنية وأوضار الجاهلية، ليعود كما أراد له الله تعالى وكما قصد ببنائه إبراهيم وإسماعيل، مكانًا لعبادة الله وتوحيده، ولا شك أن تطهير البيت من الأصنام كان أكبر ضربة للوثنية في أرجاء الجزيرة العربية حيث كانت الكعبة أعظم مراكزها.
النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بعد الفتح:
عن عَمْرِو بن حُرَيْثٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، قد أرخى طرفيها بين كتفيه (1).
وعَنْ عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَامَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهُوَ عَلَى دَرَجِ الْكَعْبَةِ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا إِنَّ كُلَّ مَأْثُرَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تذكر وتدعى من دَمٍ أو مال تَحْتَ قَدَمَيَّ، إِلَّا مَا كَانَ وسِدَانَةِ الْبَيْتِ، ألا إن دية الخطإ شبه العمد، ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها” (2).
وعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ بني لَيْثٍ، عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ، بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَخَطَبَ، فَقَالَ: “إِنَّ الله حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَه وَالْمُؤْمِنِون، أَلَا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، أَلَا وَإِنَّهَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لَا يُخْبط (3) شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا (4)، وَلَا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلَّا مُنْشِدٍ، ومَنْ قُتِلَ له قتيل فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ (5))، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يقال له: أبو شاة، فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ: “اكْتُبُوا لأِبي شاة” (6).
وعَنْ أبي شُرَيْحٍ العدوي أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خطب يَوْمَ الغد من فَتْحِ مكة، فحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: “إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا الله وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِيهَا: فَقُولُوا له: إِنَّ الله قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ” (1).
وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “لَا تُغْزَى هَذِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ” (2).
وعن عبد الله بن مُطِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: “لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ” (3).
وعَنْ عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقَالَ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الله قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى الله وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى الله، وَالنَّاسُ بنو آدَمَ، وَخَلَقَ الله آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} ” [الحجرات: 13] (4).
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ: “لَا هِجْرَةَ بعد الفتح، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِزتُمْ فَانْفِرُوا”، ثم ساق ابن عباس خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديث أبي هريرة في تحريم مكة وشجرها ونباتها، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ الله إِلَّا الْإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ (1)، وَلِبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: “إِلَّا الْإِذْخِرَ” (2).
وعَنْ جَابِرِ بن عبد الله رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: “إِنَّ الله وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ”، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ؟ فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ (3)، فَقَالَ: “لَا هُوَ حَرَامٌ”، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: “قَاتَلَ الله الْيَهُودَ إِنَّ الله لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ (4)، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ” (5).
وبعد ذلك مضى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتى الصفا حيث واعد قوَّاد جيشه هناك، فلما أتى الصفا علا عليه حتى نظر إلى البيت، ورفع يديه فجعل يحمد الله، ويدعو بما شاء أن يدعوا، وَجَاءَتْ الْأَنْصَارُ فَأَطَافُوا بِالصَّفَا، فَجَاءَ أبو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ (6)، فقَالَ:رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ دَخَلَ دَارَ أبي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ” (1).
فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ، وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، وجاء الْوَحْيُ، وكان إذا جاء الوحي لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرْفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي الوحي، فلما انقضى الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا معشر الأنصار” قالوا: لبيك يا رسول الله، قَالَ: “قُلْتُمْ أَمَّا الرَّجُلُ فأدركته رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتهِ”، قالوا: قد كان ذلك، قال: “كلا إني عبد الله وَرَسُولِهِ، هَاجَرْتُ إِلَى الله وَإِلَيْكُمْ، فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ”، فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: وَاللهِ مَا قُلْنَا إِلَّا ضِنًّا بِاللهِ وَرَسُولِهِ (2)، قَالَ: “إنَّ الله وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ، وَيَعْذِرَانِكُمْ”، فأقبل الناس إلى دار أبي سفيان وأغلق الناس أبوابهم (3).
ورغم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَّن أهل مكة جميعهم إلا أنه صلى الله عليه وسلم استثنى ستة نفر، أهدر دماءهم.
عَنْ سَعْدِ بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خَطَل، ومِقَيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، فأما عبد الله بن خَطَل فأُدرك وهو متعلق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حُريث، وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عمارًا- وكان أشبَّ الرجلين- فقتله، وأما مقيس بن صبابة، فأدركه الناس في السوق فقتلوه، وأما عكرمة فركب البحر، فأصابتهم عاصفة، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغنى عنكم شيئًا هاهنا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص، لا ينجني في البَرِّ غيره، اللهم إن لك عليَّ عهدًا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدًا حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفوًا كريمًا، فجاء فأسلم، وأما عبد الله بن أبي سَرْحٍ، فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إلى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا رسول الله بَايعْ عبد الله، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَنَظَرَ إِلَيهِ ثَلَاثًا- كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى- فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: “أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ، يَقُومُ إلى هَذَا حَيثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ؟! “، فَقَالُوا: ومَا يدْرِينا يَا رَسُولَ الله مَا في نَفْسِكَ؟ هلَا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَينِكَ؟ قَالَ: “إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ” (1).
النبي صلى الله عليه وسلم يُبايع أهل مكة:
عن الْأَسْوَدِ بن خلف رضي الله عنه أنه رأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُبَايعُ النَّاسَ يَوْمَ الْفَتْحِ، قَالَ: جَلَسَ عِنْدَ قَرْنِ مَصْقَلَةَ (2)، فَبَايَعَ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالشَّهَادَةِ (3).
وعن مُجَاشِعِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِأَخِي بَعْدَ الْفَتْحِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله جِئْتُكَ بِأَخِي لِتُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ، قَالَ: “ذَهَبَ أَهْلُ الْهِجْرَةِ بِمَا فِيهَا”، فَقُلْتُ: عَلَى أَيِّ شَيءٍ تُبَايِعُهُ؟ قَالَ: “أُبَايِعُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ” (1).
حدث في فتح مكة:
عن أُمِّ هَانِئٍ بنتِ أبي طَالِبٍ رضي الله عنها قالت: ذَهَبْتُ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ، قَالَتْ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: “مَنْ هَذِهِ؟ “، قُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بنتُ أبي طَالِبٍ، فَقَالَ: “مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ”، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ، قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا قَدْ أَجَرتُهُ فُلَانَ ابْنَ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “قَدْ أَجَرنَا مَنْ أَجَرتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ” (2).
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ- المخزومية- الَّتِي سَرَقَتْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بن زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَكَلَّمَهُ فِيهَا أُسَامَةُ بن زَيْدٍ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: “أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الله؟ “، فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ الله، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ، قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَاخْتَطَبَ، فَأَثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: “أَمَّا بَعْدُ: فَإنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بنتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا”، ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ يَدُهَا،قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدُ وَتَزَوَّجَتْ، وَكَانَتْ تَأتِينِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم (1).
وعَنْ عَمْرِو بن سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرَّ النَّاسِ، وَكَانَ يَمُرُّ بنا الرُّكْبَانُ، فَنَسْأَلُهُمْ مَا لِلنَّاسِ مَا لِلنَّاسِ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ الله أَرْسَلَهُ أَوْحَى إِلَيْهِ، أَوْ أَوْحَى الله بِكَذَا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلَامَ، وَكَأَنَّمَا يُقَرُّ فِي صَدْرِي، وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهِمْ الْفَتْحَ، فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ؛ فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ، بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي (2) قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيّ حَقًّا، فَقَالَ: صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا في حِينِ كَذَا وَصَلُّوا صَلَاةَ كَذَا في حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا، فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِي لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنْ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ عَلَىَّ بُرْدَةٌ كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْحَيِّ: أَلَا تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ؟ فَاشْتَزَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ (3).
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بن أبي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ أَنْ يَقْبِضَ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وَقَالَ عُتْبَةُ: إِنَّهُ ابْنِي، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ فِي الْفَتْحِ، أَخَذَ سَعْدُ بن أبي وَقَّاصٍ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَأَقْبَلَ بِهِ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَأَقْبَلَ مَعَهُ عبد بن زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدُ بن أبي وَقَّاصٍ: هَذَا ابْنُ أَخِي عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، قَالَ عبد بن زَمْعَةَ: يَا رَسُولَ الله هَذَا أَخِي، هَذَا ابْنُ زَمْعَةَ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَنَظَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ فَإِذَا أَشْبَهُ النَّاسِ بِعُتْبَةَ بن أبي وَقَّاصٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “هُوَ لَكَ هُوَ أَخُوكَ يَا عبد بن زَمْعَةَ” – مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ- وَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ”، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِ عُتْبَةَ بن أبي وَقَّاصٍ، قَالَ رَسُولُ الله “الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ” (1).
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى قال أبو قحافة لأبنة له من أصغر ولده: أي بنيَّة اظهري بي على أبي قُبيس (2)، قالت: وقد كُفَّ بصره، قالت: فأشرفت به عليه، فقال: أيْ بنيَّة، ماذا ترين؟ قالت: أرى سوادًا مجتمعًا، قال: تلك الخيل، قالت: وأرى رجلاً يسعى بين يدي ذلك السواد مقبلاً ومدبرًا، قال: أيْ بنيَّة ذلك الوازع -يعني: الذي يأمر الخيل ويتقدَّم إليها- ثم قالت: قد والله انتشر السواد، قالت: فقال: قد والله إذن دُفِعت الخيل، فأسرعي بي إلى بيتي، فانحطت به، وتلقاه الخيلُ قبل أن يصل إلى بيته، قال: وفي عُنُق الجارية طوق من ورِق (3)، فتلقاها رجل فيقتطعه من عنقها، قالت: فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، ودخل المسجد، أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟ ” قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت، فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال له: أسلم، فأسلم، قالت: فدخل به أبو بكر، وكأن رأسه ثغامة (4)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “غيِّروا هذا من شعره” ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته وقال: أنشد الله والإِسلام طوق أختي، فلم يجبه أحد، فقال: أيْ أُخيَّه احتسبي طوقك، فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل.
وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة.
وَهَذِهِ السَّرِيَّة يُقَال لَهَا: سَرِيَّة غَالِب بن عُبَيد الله اللَّيْثِيّ، وَكَانَتْ فِي رَمَضَان سَنَة سَبْع فِيمَا ذَكَرَهُ اِبْن سَعْد عَنْ شَيْخه، وَكَذَا ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَق فِي “الْمَغَازِي”: حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَسْلَمَ عَنْ رِجَال مِنْ قَوْمه، قَالُوا: بَعَثَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم غَالِب بن عُبَيْد الله الْكَلْبِيّ، ثُمَّ اللَّيْثِي إلى أَرْض بني مُرَّة وَبِهَا مِرْدَاس بن نَهِيك حَلِيف لَهُمْ مِنْ بني الْحُرَقَة فَقَتَلَهُ أُسَامَة.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العُزَّى، وكانت بنخلة (3)، وكانت بيتًا يعظمة هذا الحيُّ من قريش، وكنانة ومضر كلها، وكانت سدنتها (4) وحُجَّابها بني شيبان من بني سُلَيم حلفاء بني هاشم، فلما سمع صاحبها السُّلَمي بمسير خالد إليها، علَّق عليها سيفه، وأسند (5) في الجبل، الذي هي فيه وهو يقول:
أيَّا عُزَّ شُدّي شدَّة لا شَوَى (6) لها … على خالدٍ، ألْقي القناعَ وشَمّري
أيا عُزَّ إنْ لم تقتلي المرءَ خالدًا … فبوئي بإثمٍ عاجلٍ أو تنصّرَي
فلما انتهى إليها خالد هدمها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ (1). وكانت العُزَّى أعظم آلهة قريش
سرية عمرو بن العاص إلى سُواع في شهر رمضان سنة ثمان، وهو صنم لهذيل ليهدمه.
قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ قلت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قلت: لِمَ؟ قال: تُمنع، قلت: حتى الآن وأنت على الباطل؟ ويحك وهل يسمع أو يبصر. قال: فدنوت منه فكسرته، وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته، فلم يجدوا فيها شيئًا، ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمتُ لله تعالى.
سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة في شهر رمضان سنة ثمان، وكانت بالمُشلَّل، للأوس، والخزرج وغسَّان.فخرج في عشرين فارسًا حتى انتهى إليها وعليها سادن، فقال السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل سعد يمشي إليها، وتخرج إليه امرأة سوداء عُريانة ثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتضرب صدرها، فقال السادن: مناة! دُونَكِ بعضَ عُصاتكِ، ويضربها سعد بن زيد فيقتلها، ويُقبل إلى الصنم مع أصحابه فهدموه، ولم يجدوا في خزانتها شيئَّا، وانصرف راجعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لستٍّ بقيت من شهر رمضان.
عَنْ عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنه قال: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بن الْوَلِيدِ إِلَى بني جَذِيمَةَ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا، فَقَالُوا: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ فَأَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أصحابي أَسِيرَهُ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بن الْوَلِيدِ مَرَّتَيْنِ” (2).
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب أن يذهب إلى هؤلاء القوم فودى لها الدماء، وما أصيب لهم من الأموال
لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة سنة ثمان بعث قيس بن سعد بن عبادة إلى ناحية اليمن، وأمره أن يطأ صُداء، فعسكر بناحية قناة في أربعمائة من المسلمين، وقدم رجل من صُداء فسأل عن ذلك البعث فأُخبر بهم، فخرج سريعًا حتى ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: جئتك وافدًا على من ورائي، فاردد الجيش وأنا لك بقومي، فردَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
هوازن قبيلة عربية شهيرة من عرب الشمال، فهي مضرية عدنانية، تفرعت منها فروع كثيرة منها: ثقيف، وقد استقرت ثقيف في مدينة الطائف الحصينة وما حولها.
وفي ديار ثقيف كانت تقام أسواق العرب في الجاهلية، منها سوق عكاظ الشهير بين نخلة والطائف، حيث تتم البيوع والمقايضات التجارية، وتُعقد الندوات الأدبية والشعرية، ومنها: سوق ذي المجاز قرب عرفات على بُعد فرسخ منها من جهة الطائف، وسوق مِجَنَّة بمر الظهران التي تبعد عن الطائف، وتقرب من مكة.
ولا شك أن الثقفيين كانوا يستفيدون فوائد عظيمة من أسواق العرب هذه سواء في تجارتهم وتصريف نتاجهم الزراعي حيث يمتلكون بساتين الأعناب والرمان والخضروات، أوفي رقيهم الأدبي وتفتح مداركهم حيث التلاقح الثقافي في هذه اللقاءات الموسمية المنظمة وحيث يقومون بالوساطة في التجارة الخارجية بين الشام واليمن من ناحية وسكان البوادي من ناحية أخرى.
وقد تشابكت مصالح ثقيف وهوازن مع مصالح قريش تشابكًا وثيقًا بحكم الجوار، فمكة والطائف قريبتان من بعضهما بينهما 90 كم فقط، وكان القرشيون يصطافون بالطائف، ويمتلكون فيها البساتين والدور حتى سُمَّيت الطائف (بستان قريش)، وقد وطَّد هذه العلاقات ما كان بين قريش وهوازن من صلات نسبية قديمة توثقها المصاهرات المتجددة فكلاهما من مُضر الذي هو الجد السادس لهوازن والسابع أو الخامس لقريش، تبعًا لاختلاف النسابين.
وإن نظرة إلى كتب معرفة الصحابة يمكن أن توضح تشابك العلاقات بين قريش وهوازن نتيجة المصاهرات الكثيرة بين القبلتين، ولتوثيق هذه الصلات نجد أن عروة بن مسعود الثقفي كان رسولاً لقريش إلى المسلمين في الحديبية.
فلا غرابة وقد تشابكت علاقة قريش وهوازن بهذا الوثوق أن تقف هوازن مع قريش في صراعها ضد المسلمين منذ المرحلة المكية، وأن يئول إليها حمل الراية ضد الإِسلام بعد فتح مكة؛ لتملأ الفراغ إثر سقوط عامة قريش لمعسكر الشرك في الجزيرة العربية.
فمنذ أن لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف في الطائف يدعوهم بدعوة الإسلام، ثم يطلب منهم بعد رفضهم دعوته أن يكتموا ذلك، أبوا إلا أن يظهروا العداء الصريح، وأمروا صبيانهم فرشقوه بالحجارة … إن قريشًا وهوازن أمرهم واحد، فمن خرج على قريش ودينها ومصالحها فقد خرج على دين هوازن وهدد مصالحها.ويبدو أن عدم اشتراك ثقيف في الأحداث التي جرت حتى فتح مكة يرجع إلى اعتمادها على قريش وضعف تصورها لحقيقة القوة الإِسلامية (1).
سبب الغزوة:
قال ابن إسحاق رحمه الله -:
ولما سمعت هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم وما فتح الله عليه من مكة، جمعها ملكها مالك بن عوف النصري، واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها، واجتمعت مُضر وجُشَم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، ولم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب، وفي جُشَم دريد بن الصّمة شيخ كبير ليس فيه شيء إلا رأيه ومعرفته بالحرب، وكان قد عمي، وكان شيخاً مجربًا، وجماع أمر الناس إلى ملك بن عوف النصري، فلما أجمع المسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة، فلما نزل قال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نِعْم مجال الخيل، لا حَزْنٌ ضرس، ولا سهل دَهْس (2)، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصبي، ويُعار الشاء؟! قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم، قال: أين مالك؟ قيل: هذا مالك، ودعي له، قال: يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟! قال: سقت مع الناس أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم، قال: ولِمَ؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال: راعي ضأن والله، هل يَرُدُّ المنهزم شيء، إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك، فُضحت في أهلك ومالك، قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحدُّ (1) والجدُّ، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغلب عنه كعب ولا كلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال: ذانك الجذعان من عامر (2) لا ينفعان ولا يضران، يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعُليا قومهم، ثم الق الصباة على متون الخيل، فإن كانت لك، لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك، قال: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، فقالوا: أطعناك، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني.
يا لَيتَني فيها جَذَع … أَخُبُّ فيها وَأَضَع
أَقودُ وَطفاءَ الزَمَع (3) … كَأَنَّها شاةٌ صَدَع
ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فأكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد تجهيز جيش المسلمين:
ولما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبي حدرد، فدخل فيهم، فأقام فيهم، حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه، فأقبل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر (1).
فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم السّيْرَ إلَى هَوَازِنَ، وقام صلى الله عليه وسلم بتجهيز جيشه المكون من اثنى عشر ألفًا (2)، العشرة آلاف الذين فتحوا مكة، وألفان من الطلقاء، وهو أكبر جيش للمسلمين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عَتَّاب بن أسيد على مكة (3).
فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم السّيْرَ ذُكِرَ لَهُ أَنّ عِنْدَ صَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ أَدْرَاعًا لَهُ وَسِلَاحًا- وكان صفوان لا يزال مُشْرِكًا، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا صفوان هل عندك سِلَاح؟ قَالَ: عارية أَم غَصْبًا؟ قَالَ: لا بَلْ عَارِيَةٌ، فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعًا (4).
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة خامس شوال (5).
ووصلوا إلى حنين في مساء العاشر من شوال عن سَهْلِ بن الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَتْ عَشِيَّةً، فَحَضَرْتُ الصَّلَاةَ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَجُلٌ فَارِسٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنِي انْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ آبَائِهِمْ بِظُعُنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمْ اجْتَمَعُوا إلى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: “تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ الله”، ثُمَّ قَالَ: “مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟ “، قَالَ أَنَسُ بن أبي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ الله، قَالَ: فَارْكَبْ، فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ، وجَاءَ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ حَتَّى تَكُونَ في أَعْلَاهُ، وَلَا نُغَرَّنَّ مِنْ قِبَلِكَ اللَّيْلَةَ”، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى مُصَلَّاهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: “هَلْ أَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ؟ “، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله مَا أَحْسَسْنَاهُ، فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ، فَجَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ وَسَلَّمَ، قَالَ: “أَبْشِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ فَارِسُكُمْ”، فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إلى خِلَالِ الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى كُنْتُ في أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ اطَّلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “هَلْ نَزَلْتَ اللَّيْلَةَ؟ “، قَالَ: لَا، إِلَّا مُصَلِّيًا أَوْ قَاضِيًا حَاجَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “قَدْ أَوْجَبْتَ، فَلَا عَلَيْكَ أَنْ لَا تَعْمَلَ بَعْدَهَا” (1).
بداية المعركة:
خرج مَالِك بن عَوْف بمن معه إِلَى حُنَيْنٍ، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، فَأَعَدُّوا وَتَهَيَّأُوا فِي مَضَايِق الْوَادِي وأجنابه، وَأَقْبَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه حَتَّى اِنْحَطَّ بِهِمْ الْوَادِي فِي عِمَايَةِ الصُّبْح (1)، وقد أعجبت بعض المسلمين كثرتهم، فحمل المسلمون على المشركين في أول المعركة فهزموهم، وفرَّ المشركون من الميدان، فانكبَّ المسلمون على الغنائم يجمعونها، فاستقبلهم رماة المشركين بِالسِّهَامِ (2)، فَثَارَتْ في وُجُوه المسلمين الْخَيْل، فَشَدَّتْ عَلَيْهِمْ، وَانْكَفَأَ النَّاس مُنْهَزِمِينَ، لا يُقْبِل أَحَد على أحد (3)، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَته البَيْضَاءَ، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعَبَّاس آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَته، يكُفُّهَا عن الجري، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “أَيْ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ (4) “، قَالَ عَبَّاسٌ – وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا-: فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللهِ لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ، يَا لَبَّيْكَ، قَالَ: فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّارَ، وَالدَّعْوَةُ في الْأَنْصَارِ، يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: ثُمَّ قُصِرَتْ الدَّعْوَةُ عَلَى بني الْحَارِثِ بن الْخَزْرَجِ، فَقَالُوا: يَا بني الْحَارِثِ بن الخَزْرَجِ، يَا بني الْحَارِثِ بن الْخَزْرَجِ (5)، وكان الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر لا يتعدون المائة (6)، منهم رهط من أهله، علىُّ بن أبي طالب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأخوه ربيعة، والفضل بن العباس- وقيل: الفضيل بن أبي سفيان-، وأيمن بن أم أيمن، وأسامة بن زيد، وقُثم بن العباس، ورهط من المهاجرين منهم: أبو بكر وعمر (1)، فلما دعاهم العباس، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم ويَقُولُ: “أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عبد الْمُطَّلِبْ، اللهمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ” (2)، فاستجاب الله عز وجل لرسوله، واجتمع المسلمون مرة أخرى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْك تَشَأْ أَنْ لَا تُعبد بعد اليوم” (3)، ويقول: “أين أَيُّهَا النَّاسُ؟ هَلُمَّ إِلَيَّ، أَنَا رَسُولُ الله، أَنَا رَسُولُ الله، أَنَا مُحَمَّدُ بن عبد الله … ” (4).
واستعاد المسلمون توازنهم، ونظموا صفوفهم، فَنَظَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيهَا إلى قِتَالِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ”، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: “انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ”، يقول العباس رضي الله عنه: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلاً، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا، قَالَ العباس: وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ عَلَى بَغْلَتِهِ (5).
وقد أنزل الله عز وجل جندًا من السماء لإعانة المسلمين على عدوهم.
وعن سَلَمَةَ بن الأكوع رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا وَاجَهْنَا الْعَدُوَّ تَقَدَّمْتُ فَأَعْلُو ثَنِيَّةً، فَاسْتَقْبَلَنِي رَجُلٌ مِنْ الْعَدُوِّ، فَأَرْمِيهِ بِسَهْمٍ فَتَوَارَى عَنِّي، فَمَا دَرَيْتُ مَا صَنَعَ،وَنَظَرْتُ إلى الْقَوْمِ فَإِذَا هُمْ قَدْ طَلَعُوا مِنْ ثَنِيَّةٍ أُخْرَى، فَالْتَقَوْا هُمْ وَصحَابَةُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَوَلَّى صَحَابَةُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَأَرْجِعُ مُنْهَزِمًا، وَعَلَيَّ بُرْدَتَانِ مُتَّزِرًا بِإِحْدَاهُمَا مُرْتَدِيًا بِالْأُخْرَى، فَاسْتَطْلَقَ إِزَارِي فَجَمَعْتُهُمَا جَمِيعًا، وَمَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مُنْهَزِمًا، وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “لَقَدْ رَأَى ابْنُ الأَكْوَعِ فَزَعًا”، فَلَمَّا غَشُوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَنْ الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنْ الْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَقَالَ: “شَاهَتْ الْوُجُوهُ”، فَمَا خَلَقَ الله مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَهَزَمَهُمْ الله عز وجل (1).
وفي غزوة حنين يقول الله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)} [التوبة: 25 – 27].
حدث في حنين:
عن الْحَارِثِ بن مَالِك رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيّةِ، قَالَ: فَسِرْنَا مَعَهُ إلَى حُنَيْنٍ، قَالَ: وَكَانَتْ كُفّارُ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ لَهُمْ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضرَاءُ، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، يَأْتُونَهَا كُلّ سَنَةٍ، فَيُعَلّقُونَ أَسْلِحَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا، وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا، قَالَ: فَرَأَيْنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم سِدْرَةً خَضرَاءَ عَظِيمَةً، قَالَ: فَنَادَيْنَا مِنْ جَنَبَاتِ الطّرِيقِ: يَا رَسُولَ الله اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “اللهُ أَكْبَرُ، قُلْتُمْ وَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)} [الأعراف: 138] إنّهَا السّنَنُ، لَتَرْكَبُنّ سُنَنَ منْ كَانَ قَبْلَكُم” (1).
وعن سَلَمَةَ بن الأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ: غزَوْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم هَوَازِنَ، فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى (2) مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، فَأَنَاخَهُ ثُمَّ انْتَزَعَ طَلَقًا مِنْ حَقَبِهِ (3)، فَقَيَّدَ بِهِ الْجَمَلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ الْقَوْمِ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ، وَفِينَا ضعْفَةٌ وَرِقَّةٌ في الظَّهْرِ، وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ، إِذْ خَرَجَ يَشْتَدُّ، فَأَتَى جَمَلَهُ فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ، ثُمَّ أَنَاخَهُ وَقَعَدَ عَلَيْهِ، فَأَثَارَهُ، فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَمَلُ، فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ وَرْقَاءَ.
قَالَ سَلَمَةُ: وَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ، فَكُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ النَّاقَةِ، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ، حَتَّى كُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ الْجَمَلِ، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَأَنَخْتُهُ، فَلَمَّا وَضَعَ رُكْبَتَهُ في الْأَرْضِ اخْتَرَطْتُ سَيْفِي فَضَرَبْتُ رَأْسَ الرَّجُلِ، فَنَدَرَ، ثُمَّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ، عَلَيْهِ رَحْلُهُ وَسِلَاحُهُ، فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَالَ:”مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ “، قَالُوا: ابْنُ الْأَكْوَعِ، قَالَ لَهُ: “سَلَبُهُ أَجْمَعُ” (4).
وعَنْ رَبَاحِ بن رَبِيعٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في غَزْوَةٍ، فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيءٍ، فَبَعَثَ رَجُلاً، فَقَالَ: “انْظُرْ عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟ “، فَجَاءَ، فَقَالَ: عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ، فَقَالَ: “مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ! “، قَالَ: وَعَلَى الْمُقَدِّمةِ خَالِدُ بن الْوَلِيدِ، فَبَعَثَ رَجُلاً، فَقَالَ: “قُلْ لِخَالِدٍ: لَا تقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا” (1).
وعَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ- يَعْنِي يَوْمَ حُنَيْنٍ -: “مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ”، فَقَتَلَ أبوطَلحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ (2).
وعَنْ أبي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا من الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ بِالسَّيْفِ فَقَطَعْتُ الدِّرْعَ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ، فَقُلْتُ: مَا بَال النَّاسِ، قَالَ: أَمْرُ الله عز وجل، ثُمَّ رَجَعُوا وَجَلَسَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْتُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، فَقُلتُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، قَالَ: ثمَّ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، فَقُمْت، فَقَالَ: “مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ “، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: “رَجُلٌ صَدَقَ، وَسَلَبُهُ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنِّي”، فَقَال أبو بَكْرٍ: لَاهَا الله إذًا لَا يَعْمِدُ إلى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ الله يُقَاتِلُ عَنْ الله وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَيُعْطِيَكَ سَلَبَهُ (3)، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “صَدَقَ فَأَعْطِهِ”، فَأَعْطَانِيهِ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا (4) في بني سَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُه في الْإِسْلَامِ (1).
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ اتَّخَذَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ خِنْجَرًا فَكَانَ مَعَهَا، فَرَآهَا أبوطَلْحَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله هَذِهِ أُمُّ سُلَيْمٍ مَعَهَا خِنْجَرٌ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “مَا هَذَا الْخِنْجَرُ؟ “، قَالَتْ: اتَّخَذْتُهُ إِنْ دَنَا مِنّي أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَقَرْتُ بِهِ بَطْنَهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله اقْتُلْ مَنْ بَعْدَنَا مِنْ الطُّلَقَاءِ (2) انْهَزَمُوا بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “يَا أُمَّ سُلَيْمِ إِنَّ الله قَدْ كَفَى وَأَحْسَنَ”
وكان سببها أنَّ هوازن لما انهزمت ذهبت فرقة منهم، فيهم الرئيس مالك بن عوف النصري فلجئوا إلى الطائف فتحصنوا بها، وتوجَّه بنو غيرة من ثقيف نحو نخلة، وسارت فرقة فتحصنوا بمكان يقال له: أوطاس، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية من أصحابه عليهم أبو عامر الأشعري، فقاتلوهم فغلبوهم (1).
وكان قائد المشركين في أوطاس دُريد بن الصّمة.
عَنْ أبي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا فَرَغَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مِنْ حُنَينٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إلى أَوْطَاسٍ، فَلَقِيَ دُرَيْدَ بن الصِّمَّةِ فَقُتِلَ دُرَيْدٌ، وَهَزَمَ الله أَصْحَابَهُ، قَالَ أبو مُوسَى: وَبَعَثَنِي مَعَ أبي عَامِرٍ، فَرُمِيَ أبو عَامِرٍ في رُكْبَتِهِ؛ رَمَاهُ جُشَمِيٌّ بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَهُ في رُكْبَتِهِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا عَمِّ مَنْ رَمَاكَ! فَأَشَارَ فَقَالَ: ذَاكَ قَاتِلِي الَّذِي رَمَانِي، فَقَصَدْتُ لَهُ فَلَحِقْتُهُ فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى، فَاتَّبَعْتُهُ وَجَعَلْتُ أَقُولُ لَهُ: أَلَا تَسْتَحْيِ؟ أَلَا تَثْبُتُ؟ فَكَفَّ، فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ بِالسَّيْفِ، فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ لِأبي عَامِرٍ: قَتَلَ الله صاحِبَكَ، قَالَ: فَانْزعْ هَذَا السَّهْمَ فَنَزَعْتُهُ فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَقْرِئْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي، وَاسْتَخْلَفَنِي أبو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ فَمَكُثَ يَسِيرًا ثُمَّ مَاتَ، فَرَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في بَيْتِهِ عَلَى سَرِيرٍ مُرْمَلٍ (2).
وَعَلَيْهِ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ رِمَالُ السَّرِيرِ بِظَهْرِهِ وَجَنْبَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أبي عَامِرٍ، وَقَالَ: قُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَدَعَا النبي صلى الله عليه وسلم بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أبي عَامِرٍ”، قال أبو موسى: وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيهِ، ثُمَّ قَالَ: “اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنْ النَّاسِ” فَقُلْتُ: وَلِي فَاسْتَغْفِر، فَقَالَ: “اللهُمَّ اغْفِرْ لِعبد الله بن قَيسٍ ذَنْبَهُ، وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مًدْخَلًا كَرِيمًا”ويقال أنَّ الذي قتل دُريد بن الصِّمة هو الزبير بن العوام رضي الله عنه (1).
وعَن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ سُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَومَ حُنَينٍ بَعَثَ جَيشًا إلى أَوْطَاسَ، فَلَقُوا عَدُوًّا فَقَاتَلُوهُمْ، فَظَهَرُوا عَلَيهِمْ، وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايا، فَكَأَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم تَحَرَّجُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ الله عز وجل في ذَلِكَ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] أَيْ فَهُنَّ لَكُمْ حَلَالٌ إِذَا انْقَضَت عِدَّتُهُنَّ
لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى الطائف، بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين- صنم عمرو بن حمحمة الدوسي- يهدمه وأمره أن يستمدَّ قومه ويوافيه بالطائف، فخرج سريعًا إلى قومه فهدم ذا الكفين، وجعل يحشُّ (3) النار في وجهه ويحرقه ويقول:
يا ذا الكفَّين لستُ مِنْ عبادكا … ميلادنا أقدم مِنْ ميلادكا
أنا حششتُ النار في فؤادكا
سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فمر من حنين على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم علي المليح، ثم على بُحرة الرُّغاء من لبَّة، فابتنى بها مسجدًا، فصلى فيه
فأقاد يومئذ ببحرة الرغاء حين نزلها بدم -وهو أول دم أقيد به في الإِسلام- رجلاً من بني ليث؛ قتل رجلاً من هذيل، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعد أن شتت المسلمون هوازن وتعقبوها في نخلة وأوطاس، اتجهوا إلى مدينة الطائف التي تحصنت فيها ثقيف ومعهم مالك بن عوف النصري قائد هوزان.
وكانت الطائف تمتاز بموقعها الجبلي وبأسوارها القوية وحصونها الدفاعية، وليس إليها منفذ سوى الأبواب التي أغلقتها ثقيف بعد أن أدخلت من الأقوات ما يكفي لسنة كاملة، وهيأت من وسائل الحرب ما يكفل لها الصمود طويلاً، وكان وصول المسلمين إلى الطائف في حدود العشرين من شوال دون أن يستجم الجيش طويلًا من غزوة حنين وسرايا نخلة وأوطاس التي بدأت في العاشر من شوال واستغرقت أكثر من أسبوع.
وقد حاصر المسلمون الطائف بضع عشرة ليلة.
كما في رواية عروة بن الزبير وموسى بن عقبة، وحددت رواية عن عروة أيضًا المدة بنصف شهر، ورغم أن سائر هذه الروايات مراسيل لا تقوم بها حجة، فإن عروة وموسى من أجلّ كتاب المغازي وأوثقهم، وروايتهما تتفق مع تواريخ الأحداث وسياقها (1).
وقيل أن النبي صلى الله عليه وسلم حاول اقتحام الحصين بالدبابات (2)، والمنجنيق (3)، فلم يستطع المسلمون اقتحام الحصين، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم برميهم بالسهام، وشجع المسلمين على ذلك.
فعَنْ أبي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: حَاصَرْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِحِصنِ الطَّائِفِ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “مَنْ بَلَغَ بِسَهْمٍ في سَبِيلِ الله عز وجل فَلَهُ دَرَجَةٌ” (4).
وفي هذه الغزوة اعتق النبي صلى الله عليه وسلم عبيدا من المشركين
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَعْتَقَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الطَّائِفِ مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ عَبِيدِ الْمُشْرِكِينَ (2).
وعنه أيضًا رضي الله عنه قال: حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، فخرج إليه عبدان، أحدهما: أبو بكرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق العبيد إذا خرجوا إليه
عَنْ عبد الله بن عُمَرَو رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أهل الطَّائِفَ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيئًا، فقَالَ: إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ الله، قال أصحابه: نرجِع ولم نفتحه، فَقَالَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ”، فَغَدَوْا عليه، فَأصَابَهُم جِرَاحٌ،فَقَالَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا”، قال: فَأَعْجَبَهُمْ ذلك، فَضَحِكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفدُ هوازن وهو بالجعرانة، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سبي هوازن ستة آلاف من الذراري والنساء، ومن الإبل والشاء مالا يُدرى ما عدَّته (4).
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن وفد هوازن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامنن علينا، مَنَّ الله عليك، قال: وقام رجل من هوازن، يقال له: زهير يكنى أبا صُرَد، فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك (1) اللاتي كنَّ يكفُلْنك، ولو أنا مَلَحْنا (2) للحارث بن أبي شِمْر، أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل بنا بمثل الذي نزلت به، رجونا عطفه وعائدته (3) علينا، وأنت خير المكفولين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ ” فقالوا: يا رسول الله خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا، بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا، فهو أحب إلينا، فقال لهم: “أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم”، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وأما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم”. فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا. وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا. فقالت بنو سليم: بلى، ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يقول عباس بن مرداس لبني سليم: وهنتموني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم” (4).
وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب جارية فوصى بها عمر لابنه عبد الله،وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب جارية فوصى بها عمر لابنه عبد الله، يقول عبد الله بن عمر: فبعثت بها إلى أخوالي من بن جُمح؛ ليُصلحوا لي منها، ويهيئوها، حتى أطوف البيت، ثم آتيهم، وأنا أريد أن أصيبها إذا رجعت إليها، قال فخرجت من المسجد حتى فرغت، فإذا الناس يشتدَّون، فقلت: ما شأنكم؟ قالوا: ردّ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءنا وأبناءنا، فقلت: تلكم صاحبتكم في بني جمح، فاذهبوا فخذوها، فذهبوا إليها فأخذوها (1).
وَعن الْمِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “مَعِي مَنْ تَرَوْنَ وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ” (2)، وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قد أَنْظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم غَيرُ رَادٍّ إِلَيهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَينِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: “أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ الله عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ”، فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ في ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ”، فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ (3)، ثُمَّ رَجَعُوا إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا
عَنْ رَافِعِ بن خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قسم رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم غنائم يوم حنين فأعطى أَبَا سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةَ بن حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعَ بن حَابِسٍ، كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَي عَبَّاسَ بن مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ عَبَّاسُ بن مِرْدَاسٍ:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ … بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
فَمَاكَانَ بَدْرٌ وَلَاحَابِسٌ … يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ في الْمَجْمَعِ
وما كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا … وَمَنْ تَخْفِضْ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ
فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِائَةً (2)
وعَنْ عبد الله بن زَيْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحَ حُنَيْنًا قَسَمَ الْغَنَائِمَ، فَأَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ فَبَلَغَهُ أَنَّ الْأَنْصَارَ يُحِبُّونَ أَنْ يُصِيبُوا مَا أَصَابَ النَّاسُ فَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَهُمْ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: “يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ الله بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ الله بِي؟ وَمُتَفَرِّقِيِنَ فَجَمَعَكُمْ الله بِي؟ ” وَهم يَقُولُونَ: الله وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، فَقَالَ: “أَلَا تُجِيبُونِي؟ ” فَقَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ شِئْتُمْ أَنْ تَقُولُوا كَنَا وَكَذَا، وَكَانَ مِنْ الْأَمْرِ كَذَا وَكَذَا، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاءِ وَالْإِبِلِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ الله إلى رِحَالِكُمْ، الْأَنْصارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ (1)، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأ مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً (2)، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ (3).
وعَنْ جَابِرِ بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِي ثَوْب بِلَالٍ فِضَّةٌ، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْبضُ مِنْهَا، يُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِل، قَالَ: “ويلَكَ! وَمَن يَعْدِلُ إِذَاَ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ”، فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه: دَعْنِي يَا رَسُولَ الله فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ: “مَعَاذَ الله أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أصحابي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّة” (4).
وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا، أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ- وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بني تَمِيمٍ – فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله اعْدِلْ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلُ”، فَقَالَ عُمَرُ بن الخطاب: يَا رَسُولَ الله ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: “دَعْهُ فَإنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُم صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِم، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُم، يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسلام كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيءٌ (1)، ثُمَّ يُنْظَرُ إلى نَضِيِّهِ وَهوَ قِدْحُهُ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيءٌ (2)، ثُمَّ يُنْظَرُ إلى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيءٌ (3)، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ (4)، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أسْوَدُ، إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْي الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تتَدَرْدَرُ (5)، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ”، قَالً أبو سَعِيدٍ: فَأشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَأشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بن أبي طَالِبٍ رضي الله عنه قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ، فوجد، فَأُتِيَ بِهِ، حَتَّى نَظَرتُ إِلَيهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي نَعَتَ
ذكر ذلك ابن إسحاق رحمه الله، وغير واحد من أهل السيرة، أنه جيء بالشيماء بنت الحارث بن عبد العُزَّى أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرضاعة، فساقوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعنفوا عليها في السياق، فقالت للمسلمين: تعلموا والله إني لأختُ صاحبكم من الرضاعة، فلم يصدقوها حتى أتوا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، فمنَّ عليها وأعطاها عطايا وأطلقها.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلَّهُنَّ في ذِي الْقَعْدَةِ، إِلَّا الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ؛ عُمْرَةً مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ في ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ في ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنْ جِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ في ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ
عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ الْكِلَابِيَّةَ لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِي بِأَهْلِكِ”
عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ فَسَمَّيتُهُ بِاسْمِ أبي إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ دَفَعَهُ إلى أُمِّ سَيْفٍ، امْرَأَةِ قَيْنٍ (1) يُقَالُ لَهُ: أبو سَيْفٍ، فَانْطَلَقَ يَأْتِيهِ وَاتَّبَعْتُهُ، فَانْتَهَيْنَا إلى أبي سَيْفٍ وَهُوَ يَنْفُخُ بِكِيرِهِ، قَدْ امْتَلَأَ الْبَيْتُ دُخَانًا، فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ بَينَ يَدَيْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا أَبَا سيفٍ أَمْسِكْ، جَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَمْسَكَ، فَدَعَا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بالصَّبيِّ فَضمَّهُ إلَيهِ، وَقَالَ: مَا شَاءَ الله أَنْ يَقُولَ (2).
وكان مولده رضي الله عنه في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة (3).
وعَنْ أَنَسٍ أيضًا قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضعًا لَهُ في عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ
وعَنْ أبي قَتَادَةَ الْأَنْصارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بنتَ زَيْنَبَ بنتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَلِأبي الْعَاصِ بن الربيع: فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا
عَنْ جَابِرِ بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ، فَقَالَتْ: امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ أَوْ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله أَلَا نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا؟ قَالَ: “إِنْ شِئْتُمْ”، فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دُفِعَ إلى الْمِنْبَرِ، فَصَاحَتْ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ، قَالَ: كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ الذِّكْرِ عِنْدَهَا
وحجَّ الناس في تلك السنة على ما كانت العربُ تحج عليه، وحج بالمسلمين تلك السنة عَتَّابُ بن أَسيد، وهي سنة ثمان
عن عبد الرحمن بن كعب بن زهير قال: خرج كعب وبجير ابنا زهير حتى أتيا أبرق العزاف، فقال بجير لكعب: أثبت في عجل هذا المكان حتى آتي هذا الرجل، يعني رسول الله فأسمع ما يقول: فثبت كعب وخرج بجير فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإِسلام فأسلم فبلغ ذلك كعبًا فقال:
أَلا أَبلِغا عَنَي بُجَيرًا رِسالَةً … عَلَى أَيِّ شَيءٍ وَيْحَ غَيْرَكَ دَلَكا
عَلى خُلُقٍ لَم تُلفِ أُمّاً وَلا أَباً … عَلَيهِ وَلَم تُدرِك عَلَيه أَخاً لَكا
سَقَاكَ أبو بكرٍ بِكَأَسِ رَويِةٍ … وَأَنَهلكَ المَأَمورُ مَنْهَا وعَلَكَا
فلما بلغت الأبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دمه، فقال: “من لقي كعبًا فليقتله” فكتب بذلك بجير إلى أخيه يذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه ويقول له: النجا وما أراك تفلت ثم كتب إليه بعد ذلك: اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتيه أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا قَبِل ذلك، فإذا جاءك كتابي هذا فأسلم، وأقبل، فأسلم كعب وقال القصيدة التى يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه والقوم متحلقون معه حلقة دون حلقة يلتفت إلى هؤلاء مرة فيحدثهم وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم، قال كعب: فأنخت راحلتي بباب المسجد فعرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفة فتخطيت حتى جلست إليه فأسلمت، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله الأمان يا رسول الله قال: “ومن أنت؟ “، قلت: أنا كعب بن زهير: قال: “أنت الذي تقول” ثم التفت إلى أبي بكر: “كيف قال يا أبا بكر” فأنشده أبو بكر رضي الله عنه:
سَقَاكَ أبو بكرٍ بِكَأَسِ رَويِةٍ … وَأَنَهلكَ المَأَمورُ مَنْهَا وعَلَكَا
قال: يا رسول الله ما قلت هكذا قال: “وكيف قلت؟ ” قال: إنما قلت:
سَقَاكَ أبو بكرٍ بِكَأَسِ رَويِةٍ … وَأَنَهلكَ المَأَمونُ مَنْهَا وعَلَكَا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مأمون والله” ثم أنشده القصيدة كلها حتى أتى على آخرها. واملاها على الحجاج بن ذي الرقيبة حتى أتى على آخرها:
بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ … مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفَدْ مَكْبولُ (1)
إلى آخر القصيدة.
عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لما توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ في الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي”، قالت: فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حقْوَهُ (1)، فَقَالَ: “أَشْعِرْنَهَا (2). إِيَّاهُ”.
وفي رواية: قالت أم عطية: أنهن نقضن شعرها ثم غَسَلْنه، ثم جعلنه ثلاثة قرون، وألقيناها خلفها.
وفي رواية: عن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرها أن تغسل ابنته قال لها: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها (3).
قال ابن عبد البر رحمه الله:
كانت زينب أكبر بناته صلى الله عليه وسلم لا خلاف أعلمه في ذلك، إلَّا ما لا يصح ولا يُلتفت إليه، وإنما الاختلاف بين زينب والقاسم أيها وُلد أولاً، وتُوفيِّت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثمانٍ من الهجرة
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في ذي القعدة سنة ثمان إلى جيفر وعبد (5) ابني الجلندى، وهما من الأزد والملك منهما جيفر، يدعوهما إلى الإِسلام، وكتب معه إليهما كتابًا وختم الكتاب، قال عمرو: فلما قدمت عمان عمدت إلى عبد، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقًا، فقلت: إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدم عليَّ بالسن والملك وأنا أُوصلك إليه حتى يقرأ كتابك، فمكثت أياما ببابه، ثم إنه دعاني فدخلت عليه، فدفعت إليه الكتاب مختومًا ففض خاتمه وقرأه حتى انتهى إلى آخره ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلَّا أني رأيت أخاه أرقَّ منه، فقال: دعني يومي هذا وارجع إليَّ غدًا، فلما كان الغد رجعت إليه، قال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إذا ملَّكتُ رجلاً ما في يديَّ، قلتُ: فإني خارج غدًا، فلما أيقن بمخرجي أصبح فأرسل إليَّ، فدخلت عليه فأجاب إلى الإِسلام هو وأخوه جميعًا وصدَّقا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وخلَّيا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونًا على من خالفني، فأخذت الصدقة من أغنيائهم فرددتها في فقرائهم، فلم أزل مقيمًا فيهم حتى بلغنا وفاة رسول الله”
عَنْ أَنَس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ: “إنَّ الله هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ في دَمٍ وَلَا مَالٍ”
قال ابن إسحاق رحمه الله -:
فلما افتُتحت مكة، ودانت لها قريش، ودوَّخها الإِسلام، عرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عدواته، فدخلوا في دين الله كما قال الله عز وجل: أفواجا يضربون إليه من كل وجه، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1]. أي: فأحمد الله على ما أظهر من دينك، واستغفره إنه كان توابا.
عن رجل من بني ثعلبة، عن أبيه لما قدم رسول الله من الجعرانة سنة ثمان، قدمنا عليه أربعة نفر وقلنا: نحن رسل من خلفنا من قومنا، ونحن وهم مُقرُون بالإِسلام، فأمر لنا بضيافة وأقمنا أيامًا
قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني سُلَيم يقال له: قيس بن نُسيبة، فسمع كلامه وسأله عن أشياء فأجابه، ووعى ذلك كله، ودعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإِسلام فأسلم، ورجع إلى قومه بني سُليم فقال: قد سمعت ترجمة الروم، وهينمة فارس، وأشعار العرب، وكهانة الكاهن، وكلام مقاول حمير، فما يشبه كلام محمَّد شيئًا من كلامهم، فأطيعوني وخذوا بنصيبكم منه فلما كان عام الفتح خرجت بنو سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقوه بقُديد وهم تسعمائة، ويقال: كانوا ألفًا، فيهم العباس بن مرداس وأنس بن عياض بن رعل وراشد بن عبد ربه فأسلموا وقالوا: اجعلنا في مقدمتك، واجعل لواءنا أحمر، وشعارنا مقدم، ففعل ذلك بهم، فشهدوا معه الفتح والطائف وحنينًا
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “مرحبًا بالقوم غير خزايا ولا الندامى”، فقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نَصِلُ إليك إلا في أشهر الحُرُم، حدثنا بِجُمَلٍ من الأمر إن عملنا بها دخلنا الجنة، وندعوا من وراءنا، قال: “آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، الإيمان بالله، هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تُعْطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن أربع: ما انتبذ في الدُّبَّاء والنقير والمزفَّت”وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: “إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة”.
وعن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيها وَعِنْدِها نِسْوَةٌ مِنْ بني حَرَامٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فصلى ركعتين، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْخَادِمَة، فقلت: قُومِي إلى جَنْبِهِ فَقُولِي: تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ الله أَلَمْ أَسْمَعْكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخَرَت عنه، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: “يَا بنتَ أبي أُمَيَّةَ سَأَلْتِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، إِنَّهُ أَتَانِي أُنَاسٌ مِنْ عبد الْقَيْسِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَينِ اللتين بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ”
لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة سنة ثمان بعث قيس بن سعد بن عبادة إلى ناحية اليمن وأمره أن يطأ صُدَاء فعسكر بناحية قناة في أربعمائة من المسلمين وقدم رجل من صداء فسأل عن ذلك البعث فَأُخْبر بهم فخرج سريعا حتى ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جئتك وافدًا على من ورائي فاردد الجيش وأنا لك بقومي فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم منهم بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر رجلاً فأسلموا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على من وراءهم من قومهم ورجعوا إلى بلادهم ففشا فيهم الإِسلام فوافى النبي صلى الله عليه وسلم مائةُ رجل منهم في حجة الوداع
قدم عبد الله بن عَلَس الثُّمالي، ومُسيلمة بن هِزَّان الحُدَّاني على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من قومهما بعد فتح مكة فأسلموا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومهم، وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بما فُرض عليهم من الصدقة في أموالهم، كتبه ثابت بن قيس بن شماس، وشهد فيه سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة