أحداث السنة الثانية من هجرة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم
Events of the second year of the migration of the Messenger of Allah, Muhammad (peace and blessings of Allah be upon him)
غزا النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه غزوة الأَبْواء📍، ويقال لها: ودَّان🌍، وهي أول غزوة غزاها بنفسه، وكانت في صفر على رأس اثني عشر شهرًا من مُهاجَره، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، وخرج في المهاجرين خاصة يعترض عيرًا لقريش، فلم يلق كيدًا وفي هذه الغزوة وادع مخشَّ بن عمرو الضَمْريّ وكان سيد بني ضَمْرة في زمانه على ألا يغزو بني ضمرة، ولا يغزوه ولا أن يكثرِّوا عليه جمعًا، ولا يعينوا عليه عدوا، وكتب بينه وبينهم كتابًا، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة
غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شهر ربيع الأوّل يريد قريشًا واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون حتى بلغ بُواط 📍 🌍 من ناحية رضْوى📍 🌍 ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى
خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رأس ثلاثة عشر شهرًا من مُهاجره يطلب كُرز بن جابر الفهري، وحمل لواءه علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -،وكان أبيض واستخلف على المدينة زيد بن حارثة وكان كُرز قد أغار على سرح المدينة (٥) فاستاقه، وكان يرعى بالحِمى، فطلبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بلغ واديًا يقال له: سَفَوان📍 🌍 من ناحية بدر📍، وفاته كُرز ولم يَلحقْه، فرجع إلى المدينة
غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قريشًا، فاستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وسار حتى نزل العُشيرة📍 🌍 من بطن ينبُع، فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، ووادع فيها بني مُدْلج وحلفاءهم من بني ضَمْرة (١)، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا
عَنْ سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ – رضي الله عنه – قالَ: لَمّا قَدِمَ رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم – الْمَدِينَةَ جاءَتْهُ جُهَيْنَةُ فَقالُوا: إِنَّكَ قَدْ نَزَلْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنا، فَأَوْثِقْ لَنا حَتَّى نَأْتِيَكَ وَتُؤْمِنَّا، فَأَوْثَقَ لَهُم، فَأَسْلَمُوا قالَ: فَبَعَثَنا رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم – في رَجَبٍ، وَلا نَكُونُ مِائَةً وَأَمَرَنا أَنْ نُغِيرَ عَلَى حَيّ مِنْ بني كِنانَةَ📍 إلى جَنْبِ جُهَيْنَةَ📍 🌍 فَأَغَرْنا عَلَيْهِمْ، وَكانُوا كَثِيرًا، فَلَجَأْنا إلى جُهَيْنَةَ فَمَنَعُونا، وَقالُوا: لِمَ تُقاتِلُونَ في الشَّهْرِ الْحَرامِ؟! فَقُلْنَا: إِنَّما نُقاتِلُ مَنْ أَخْرَجَنا مِنْ الْبَلَدِ الْحَرامِ في الشَّهْرِ الْحَرامِ، فَقالَ بَعْضُنا لِبَعْضٍ: ما تَرَوْنَ؟ فَقالَ بَعْضُنا: نَأتِي نَبِي الله – صلى الله عليه وسلم – فَنُخْبِرُهُ، وَقالَ قَوْمٌ: لا، بَلْ نُقِيمُ ها هُنا، وَقُلْتُ أَنا في أُناسٍ مَعِي لا بَلْ نَأْتِي عِيرَ قُرَيْشٍ فَنَقْتَطِعُها، فانْطَلَقْنا إلى الْعِيرِ، وانْطَلَقَ أَصحابُنَا إلى النَّبِيّ – صلى الله عليه وسلم – فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقامَ غَضْبانًا مُحْمَرَّ الْوَجْهِ، فَقالَ: أَذَهبْتُمْ مِنْ عِنْدِي جَمِيعًا وَجِئْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ؟ إِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ الْفُرْقَةُ لَأَبْعَثَنَّ عَلَيْكُمْ رَجُلًا لَيْسَ بِخَيْرِكُمْ، أَصْبَرُكُمْ عَلَى الْجُوعِ والْعَطَشِ، فَبَعَثَ عَلَيْنا عبد الله بن جَحْشٍ الْأَسَدِيَّ، فَكانَ أَوَّلَ أَمِيرٍ أُمِّرَ في الْإِسْلامِ
بعث رسول الله رسوله – صلى الله عليه وسلم – عبد الله بن جحش الأسديَّ إلى نخلة📍 في رجب على رأس سبعة عشر شهرًا من الهجرة في اثني عشر رجلًا من المهاجرين كل اثنين يعتقبان على بعير، فوصلوا إلى بطن نخلة يرصدون عيرًا لقريش، وفي هذه السرية سمي عبد الله بن جحش أمير المؤمنين، وكان رسول الله كتب له كتابًا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، ولما فتح الكتاب وجد فيه: إذا نظرت في كتابي هذا، فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشًا، وتعلم لنا من أخبارهم، فقال: سمعًا وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكرههم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فمضوا كلهم، فلما كان في أثناء الطريق، أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه، وبعُد عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارة فيها عمرو بن الحضرميّ، وعثمان ونوفل بن عبد الله بن المغيرة، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم، انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم أجمعوا على مُلاقاتهم فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعير والأسيرين وقد عزلوا من ذلك الخمس، وهو أول خمس كان في الإِسلام، وأول قتيل في الإِسلام وأول أسيرين في الإِسلام، وأنكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم ما فعلوه، واشتد تعنت قريش وإنكارهم ذلك وزعموا أنهم قد وجدوا مقالا،فقالوا: قد أحل محمَّد الشهر الحرام، واشتد على المسلمين ذلك، حتى أنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: ٢١٧] يقول سبحانه: هذا الذي أنكرتموه عليهم وإن كان كبيرًا فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله، والصدِّ عن سبيله وعن بيته وإخراج المسلمين الذين هم أهل منه، والشرك الذي أنتم عليه، والفتنة التي حصلت منكم به أكبر عند الله من قتالهم في الشهر الحرام.
عَنْ الْبَراءِ بن عازب – رضي الله عنه – أَنَّ رسُولَ الله – صلى الله عليه وسلم – صَلَّى إلى بَيتِ الْمَقْدِسِ📍 سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ📍 وَأَنَّهُ صَلَّى أَوْ صَلّاها صَلاةَ الْعَصْرِ وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كانَ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ 📍وَهُم راكِعُونَ قالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَد صَلَّيتُ مَعَ النَّبِي – صلى الله عليه وسلم – قِبَلَ مَكَّةَ فَدارُوا كَما هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ وَكانَ الَّذِي ماتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ الْبَيْتِ رِجالٌ قُتِلُوا لَم نَدْرِ ما نَقُولُ فِيهِمْ فأَنْزَلَ الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)}
وعَنْ عبد الله بن عُمَرَ – رضي الله عنهما – قال: بَيْنَما النّاسُ يُصَلُّون الصُّبْحَ في مَسْجِدِ قُباءٍ📍 إِذْ جاءَ جاءٍ فَقالَ: أَنْزَلَ الله عَلَى النَّبِي – صلى الله عليه وسلم – قُرْآنًا أَنْ يَستَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فاسْتَقْبِلُوها فَتَوَجَّهُوا إلى الْكَعْبَةِ (١).
وعَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ الله – صلى الله عليه وسلم – كانَ يُصلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَزَلَت: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: ١٤٤] فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بني سَلِمَةَ📍 وَهُمْ رُكُوعٌ في صَلاةِ الْفَجْرِ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، فَنادَى: أَلا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَمالُوا كَما هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ
عن عمر بن ذر حدثنا مجاهد أن أبا هريرة كان يقول: آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ثم قال: يا أبا هر. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: الحق، ومضى فتبعته فدخل فأستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبنا في قدح. فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة. قال: أبا هر. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي. قال: وأهل الصفة أضياف الإِسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هر. قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم. قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروي ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروي، ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر لي فتبسم فقال: أبا هر. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: بقيت أنا وأنت. قلت: صدقت يا رسول الله. قال: اقعد فاشرب. فقعدت فشربت، فقال: اشرب. فشربت فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكًا. قال: فأرني فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة.
فُرض صيام شهر رمضان، وقد قيل: إنه فُرض في شعبان منها
وزكاة الفطر هي الزكاة التي تجب بالفطر من رمضان وقد أوجبها النبي – صلي الله عليه وسلم – على كل مسلم.
عَنْ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنه قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ الله – صلي الله عليه وسلم – زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعبد وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلى الصَّلَاةِ (2).
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ الله – صلي الله عليه وسلم – زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاة مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صدَقَة مِنْ الصَّدَقَاتِ (3).
وأما زكاة النصب فهي زكاة المال، وتعريفها: أنها نصيب مقدر في مال معين، يصرف لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص.
قَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}
والأموال التي تجب فيها الزكاة هي:
1 – الأثمان:
وهي الذهب والفضة.
قَالَ – صلي الله عليه وسلم -: “إِذَا كَانَتْ لَكَ مِائتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيءٌ – يَعْنِي: في الذَّهَب- حَتَّى يَكُونَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا، فَإِذَا كَانَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَولُ فَفِيهَا نِصفُ دِينَارٍ” (1).
2 – بهيمة الأنعام:
وهي الإبل، والبقر، ويشمل الجاموس، والغنم وتشمل المعز (2).
3 – الخارج من الأرض:
أي: الزروع. قَالَ تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267].
وقَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].
وعَنْ ابن عمر قَالَ: قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم -: “فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ، أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ”.
وعَنْ أبي سَعِيد الخدري رضي الله عنه قَالَ: قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم -: “لَيسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ” (3).
4 – عروض التجارة:
قَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أبا سفيان بن حرب مقبلًا من الشام في عير لقريش عظيمة، فيها أموال لقريش، وتجارة من تجاراتهم، وفيها ثلاثون رجلًا من قريش أو أربعون، منهم: مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص (1).
فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إليهم، وقال هذه عيرُ قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفِّلكموها، فانتدب الناس، فخفَّ بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربًا.
وكان أبو سفيان- حين دنا من الحجاز- يتحسس الأخبار، ويسأل من لقى من الركبان، تخوفًا على أمر الناس، حتى أصاب خبرًا من بعض الناس أن محمدًا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك، فحذر عند ذلك، فاستأجر ضَمْضَم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشًا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويُخبرهم أن محمدًا قد عرض لنا في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة (2).
وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب، قبل قدوم ضمضم بثلاث ليال، رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا لقد أفظعتني وتخوفتُ أن يدخل علي قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عني ما أحدثك به، فقال لها: وما رأيت؟ قال: رأيت راكبًا أقبل على بعير له، حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا آل غُدَر (3) لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مَثَلَ به (4) بعيرُه على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، ثم مَثَلَ به بعيرُه على رأس أبي قُبيس (1)، فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها، فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت (2) فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دارٌ إلا دخلتها منها فِلقة قال العباس: والله إن هذه لرؤيا! وأنت فاكتميها، ولا تذكريها لأحد.
ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة -وكان له صديقًا- فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث بمكة، حتى حدثت به قريش في أنديتها.
قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت، وأبو جهل ابن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل، إذا فرغْتَ من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغتُ أقبلت حتى جلستُ معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب متى حَدَثَتْ فيكم هذه النبية؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: تلك الرؤيا التي رأت عاتكة قال: فقلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى يتنبأ نساؤكم! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقًا ما تقول فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابًا أنكم أكذب أهل بيت في العرب.
قال العباس فوالله ما كان مني إليه كبير، إلا أني جحدتُ ذلك، وأنكرت أن تكون رأت شيئًا. قال: ثم تفرقنا، فلما أمسيتُ لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم تكن عندك غَيرة لشيء مما سمعت! قال: قلت: قد والله فعلتُ، ما كان مني إليه كبير، وأيم الله لأتعرضنَّ له فإن عاد لأكفينَّكُنَّه.
قال: فغدوتُ في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أُحبُّ أن أدركه منه قال: فدخلت المسجد فرأيته، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فاقعُ به، وكان رجلًا خفيفًا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر، قال: إذ خرج نحو باب المسجد يشتدُّ، فقلت في نفسي: ما له لعنه الله أَكُلُّ هذا فَرَقٌ مني أن أُشاتمه؟! قال: وإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفًا على بعيره، قد جدَّع بعيره (1) وحوَّل رَحله، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة (2) أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمَّد في أصحابه، لا أرى أن تُدركوها الغوث الغوث.
قال: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر، فتجهز الناس سراعًا، قالوا: أيظن محمَّد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟! كلا والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث رجلًا، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب قد تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكان قد لأط (3) له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه، أفلس بها، فاستأجره بها، على أن يُجزئ عنه وكان أمية بن خلف أيضًا أراد أنْ يتخلف عن الخروج، وله في ذلك قصة يحكيها سَعْدُ بن مُعاذٍ رضي الله عنه حيث كانَ صَدِيقًا لِأُمَيَّةَ بن خَلَفٍ، وَكانَ أُمَيَّةُ إِذا مَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ بن معاذ، وَكانَ سَعْدٌ إِذا مَرَّ بِمَكَّةَ نَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ انْطَلَقَ سَعْدٌ مُعْتَمِرًا فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بِمَكَّةَ فَقالَ لِأُمَيَّةَ: انْظُرْ لِي ساعَةَ خَلْوَةٍ لَعَلِّي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيتِ فَخَرَجَ بِهِ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهارِ فَلَقِيَهُما أبو جَهْلٍ فَقالَ: يا أَبا صَفْوانَ مَنْ هَذا مَعَكَ؟ فَقالَ: سَعْدٌ، فَقالَ لَهُ أبو جَهْلٍ: أَلا أَراكَ تَطُوفُ بِمَكَّةَ آمِنًا وَقَدْ أَوَيْتُمْ الصُّباةَ وَزَعَمْتُمْ أَنكمْ تَنْصُرُونَهُمْ وَتُعِينُونَهُمْ أَما واللهِ لَوْلا أَنَّكَ مَعَ أبي صَفْوانَ ما رَجَعْتَ إلى أَهْلِكَ سالِمًا، فَقالَ لَهُ سَعْدٌ وَرَفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ: أَما واللهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي هَذا لَأَمْنَعَنَّكَ ما هُوَ أَشَدُّ عَلَيْكَ مِنْهُ طَرِيقَكَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقالَ لَهُ أُمَيَّةُ: لا تَرْفَعْ صَوْتَكَ يا سَعْدُ عَلَى أبي الْحَكَمِ سَيِّدِ أَهْلِ الْوادِي، فَقالَ سَعْدٌ: دَعْنا عَنْكَ يا أُمَيَّةُ فَواللهِ لَقَد سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “إنَّهُمْ قاتِلُوكَ”، قالَ: بِمَكَّةَ؟ قالَ: لا أَدْرِي، فَفَزعَ لِذَلِكَ أُمَيَّةُ فَزَعًا شَدِيدًا فَلَمّا رَجَعَ أُمَيَّةُ إلى أَهْلِهِ قالَ: يا أُمَّ صَفْوانَ أَلَمْ تَرَيْ ما قالَ لِي سَعْدٌ؟ قالَتْ: وَما قالَ لَكَ؟ قالَ: زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا أَخبَرَهُمْ أَنَّهُمْ قاتِلِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: بِمَكَّةَ؟ قالَ: لا أَدْرِي، فَقالَ أُمَيَّةُ: واللهِ لا أَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ فَلَمّا كانَ يَوْمُ بَدْرٍ اسْتَنْفَرَ أبو جَهْلٍ النّاسَ، قالَ: أَدْرِكُوا عِيرَكُمْ فَكَرِهَ أُمَيَّةُ أَنْ يَخْرُجَ فَأَتاهُ أبو جَهْلٍ، فَقالَ: يا أَبا صفْوانَ إِنَّكَ مَتَى ما يَراكَ النّاسُ قَدْ تَخَلَّفْتَ وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ الْوادِي تَخَلَّفُوا مَعَكَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ أبو جَهْلٍ حَتَّى قالَ: أَمّا إِذْ غَلَبْتَنِي فَواللهِ لَأَشْتَرِيَنَّ أَجْوَدَ بَعِيرٍ بِمَكَّةَ، ثُمَّ قالَ أُمَيَّةُ: يا أُمَّ صَفْوانَ جَهِّزِيني، فَقالَتْ لَهُ: يا أَبا صَفْوانَ وَقَدْ نَسِيتَ ما قالَ لَكَ أَخُوكَ الْيَثْرِبِيُّ؟ قالَ: لا، ما أُرِيدُ أَنْ أَجُوزَ مَعَهُمْ إِلّا قَرِيبًا، فَلَمّا خَرَجَ أُمَيَّةُ أَخَذَ لا يَنْزِلُ مَنْزِلًا إِلّا عَقَلَ بَعِيرَهُ، فَلَمْ يَزَلْ بِذَلِكَ حَتَّى قَتَلَهُ الله عز وجل بِبَدْرٍ فتأهبت قريش للخروج بجيش قوامه نحو ألف مقاتل بما معهم من جمال وخيول وعتاد وعُدة، للدفاع عن عيرها وأموالها، كما أخذوا معهم نساءهم وأبناءهم وأموالهم، وكانت العربُ تفعل ذلك لتحفيز جنودها على القتال، فإن الرجل إذا ماِ خارت قوته ووهنت عزيمته وأراد أن يفر من ساحة المعركة تذكر ما خلفه من نساء وأبناء وأموال فكان ذلك حافزًا له على القتال بقوة وبأس وعدم الفرار من أرض المعركة.
وفي المقابل تأهب جيش المسلمين للخروج سريعًا للحاق بقافلة أبي سفيان فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أرسل بُسَيْسَةَ عَيْنًا يَنْظُرُ ما صَنَعَتْ عِيرُ أبي سُفْيانَ (1)، فلما جاء بُسيسة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بأن القافلة قد قربت حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج بسرعة حتى لا تفوته القافلة، حتى إنه من شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على ذلك لم ينتظر من كانت ظُهْرانِهِم (2) في عوالي المدينة فجعلوا يستأذنونه أن يُحضِروا ظُهرانهم فَقالَ: “لا إِلّا مَنْ كانَ ظَهْرُهُ حاضِرًا” (3).
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في جيش تعداده بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاثَ مِائَةٍ مقاتل (4) منهم الْأَنْصارُ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، ومن المهاجرين نَيِّفًا وسِتِّينَ (5) ليس معهم إلا فرسٌ واحدٌ للمقداد بن عمرو (1) وسبعون بعيرًا (2) يعتقب كُلُّ ثَلاثَةٍ بعيرًا (3) فكانَ النبي صلى الله عليه وسلم وَعَلِيٌّ وأبو لُبابَةَ يعتقبون بعيرًا فلما كانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم (4) قالا: نَحنُ نَمْشِي عَنْكَ يا رسول الله، فَقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أَنْتُما بِأَقْوَى مِنِّي وَلا أَنا بِأَغْنَى عَنْ الْأَجْرِ مِنْكُما” (5).
وفي أثناء السير ولما بلغ الجيش الروحاء -وهي على أربعين ميلًا من المدينة- ردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا لبابة أميرًا على المدينة وكان قد ترك ابن أم مكتوم ليصلي بالناس (6).
أما أبو سفيان فقد تمكن في خِضَمِّ ذلك أن يفر بقافلته فأخذ بها طريق الساحل -وهو غير طريقهم المعتاد- وأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته بفرار القافلة، وبأن قريشًا خرجت بجيش كبير لمحاربة المسلمين.
فحينها استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأمر فبعضهم كره القتال، وفي ذلك، يقول الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)} [الأنفال: 5، 6] والحق الذي تبيّن هو أن الله تعالى قد وعدهم إحدى الطائفتين إما أخذ القافلة وغنيمتها، وإما القتال، فلما فرت القافلة كان الحق الذي تبيّن هو القتال فكره بعض المسلمين ذلك يقول تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ (1) وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} [الأنفال: 7، 8].
وكان هؤلاء يرون أن القتال لا فائدة منه لأنّ القافلة نجت فلا غنيمة تُفيد المسلمين، ولأن المسلمين غير مستعدين للحرب كما استعدت قريش، ولكن الله تعالى قد بين الحكمة من القتال في الآيتين السابقتين من سورة الأنفال.
فلما عرض النبي صلى الله عليه وسلم الأمر قام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطّاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)} [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْك الغِماد (2) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ودعا له به.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أشيروا عليّ أيها الناس” وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس (1) وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذلك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا، نمنعك مما نمنع منه نساءنا وأبناءنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول، قال: “أجل” قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ في اللقاء، لعلَّ الله يريك منا ما تقرُّ به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله، فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: “سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم” (2).
وكان لواء المسلمين في هذه المعركة مع مصعب بن عمير رضي الله عنه وكان أبيض وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان إحداهما مع علي بن أبي طالب يقال لها: العُقاب، والأخرى مع بعض الأنصار (3).
فسار النبي صلى الله عليه وسلم مستعينًا بالله عز وجل على هؤلاء المجرمين الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورءاء الناس ليصدوا عن سبيل الله وفي الطريق وتحديدًا وهم بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ (1) أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُزأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أَصْحابُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَوْهُ فَلَمّا أَدرَكَهُ قالَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ، قالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ”، قالَ: لا، قالَ: “فارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ”، ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذا كان بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ، فَقالَ للنبي-صلى الله عليه وسلم: كَما قالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَما قالَ أَوَّلَ مَرَّة، قالَ: “فارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ”، ثُمَّ رَجَعَ الرجل مرة أخرى وهم بِالْبَيْداءِ، فَقالَ لَهُ النبي صلى الله عليه وسلم كَما قالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: “تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ”، قالَ الرجل: نَعَم، فَقالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “فانْطَلِقْ” (2).
وفي الطريق أيضًا ردَّ النبي صلى الله عليه وسلم البراء بن عازب وابن عمر لصغرهما (3).
وعلى الجانب الآخر فإن كفار قريش كادوا أن يرجعوا بلا قتال حيث تذكروا الذي كان بينهم وبين بني بكر من خصومة وخافوا أن يأتوهم من خلفهم فيُعينون عليهم جيش المسلمين، وبينما هم على ذلك إذ جاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك -وكان من أشراف بني كنانة- فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه فخرجوا (4).
وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ {الْعِقَابِ (48)} [الأنفال: 48].
حيث فر الشيطان من ساحة المعركة عندما رأى الملائكة تتنزل لنصرة المؤمنين كما سيأتي. إن شاء الله.
وأيضًا أشار عتبة بن ربيعة عليهم بالرجوع لئلا تَكْثر التِراتُ بين الطرفين وبينهم أرحام وقرابات، ولكن أصر أبو جهل على القتال وغلب رأيه أخيرًا (1).
ثم وصل الفريقان إلى بدر التي تبعد عن المدينة بنحو (160) كيلو مترًا، وكان جيش المسلمين أسبق إلى هناك فلما أمسى القوم بعث النبي – صلي الله عليه وسلم – عليَّ بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه، فأصابوا راوية (2) لقريش فيها أسلم، غلام بني الحجاج، وعَريض أبو يسار، غلام بني العاص بن سعيد، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله – صلي الله عليه وسلم – قائم يصلي، فقالا نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما فلما أذلقوهما (3) قالا نحن لأبي سفيان، فتركوهما، وركع رسول الله – صلي الله عليه وسلم – وسجد سجدتيه ثم سلم، وقال: “إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله إنهما لقريش أخبراني عن قريش؟ ” قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعُدوة القصوى، فقال لهما رسول الله – صلي الله عليه وسلم -: “كم القوم؟ ” قالا: كثير، قال: “ما عدتهم؟ ” قالا: لا ندري، قال: “كم ينحرون كل يوم؟ ” قالا: يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا، فقال رسول الله – صلي الله عليه وسلم -: “القوم فيما بين التسعمائة والألف”، ثم قال لهما: “فمَن فيهم من أشراف قريش؟ ” قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام،وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عديِّ بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونُبيه، ومنبِّه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ودٍّ، فأقبل رسول الله – صلي الله عليه وسلم – على الناس فقال: “هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها” (1)، ثم قَالَ النبي – صلي الله عليه وسلم -: “هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ” – وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ هَا هُنَا هَا هُنَا- فَمَا مَاطَ (2) أَحَدُهُمْ عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ الله – صلي الله عليه وسلم – (3)، فبات المسلمون تلك الليلة بالعدوة الدنيا -أي القريبة من المدينة، وبات المشركون بالعدوة القصوى- أي البعيدة عن المدينة من ناحية مكة، وقد ذكر القرآن الكريم هذا الموقف في قوله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ} أي العير الذي فيه أبو سفيان {أَسْفَلَ مِنْكُمْ} أي مما يلي ساحل البحر، {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال: 42] ليصير الأمر ظاهرًا، والحجة قاطعة، والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئذ يهلك من هلك أي: يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره أنه مبطل، لقيام الحجة عليه ويحيى من حيَّ أي: يؤمن من آمن عن بينة أي: عن حجة وبصيرة، {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال: 42] أي: لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به عليم بكم وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة المعاندين (1).
وكان الوادي الذي نزل به المسلمون لينًا سهلًا لا تثبت فيه أقدام الخيول، والوادي الذي نزل به المشركون صلبًا تتحرك فيه الخيل بسهولة، فأنعم الله تعالى على المسلمين بأن أرسل عليهم من السماء ماءً ليثبت به أقدامهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} تطهير الظاهر من الحدث الأصغر أو الأكبر، {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} من وسوسة أو خاطر سيء وهو تطهير الباطن {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء، {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)} [الأنفال: 11]، حيث تصلبت الأرض وتوطأت، فثبتت به أقدام المسلمين في مواجهة عدوهم (2).
ثم أنزل الله تعالى على المؤمنين النعاس أمانًا لهم، وراحة من عناء السفر، حتى إذا ما بدأت المعركة كانوا في ذروة النشاط والاستعداد.
أمَّا النبي – صلي الله عليه وسلم – فلم ينم، بل ظلَّ في عريشه الذي بناه له الصحابة بمشورة سعد بن معاذ رضي الله عنه، حيث قال: يا نبي الله، ألا نبنى لك عريشًا تكوّن فيه ونعُدُّ عندك ركائبك؟ ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلَّف عنك أقوام، يا نبي الله، ما نحن بأشدِّ لك حبًّا منهم، ولو ظنُّوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، ينصحونك ويجاهدون معك،فأثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم خيرًا، ودعا له بخير، ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش، فكان فيه (1).
فظلَّ النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك العريش يدعو ربه، ويستغيث به، ويستنصره.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ في قُبَّةٍ له: “اللهُمَّ إنِّي أَنْشدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللهمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعبد بَعْدَ الْيَوْمِ” فَأَخَذَ أبو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ الله فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، وَهُوَ في الدِّرْعِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)} [القمر: 45، 46] (2).
وعن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ الله إلى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الْقِبلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: “اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعبد في الْأرْضِ” فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أبو بَكْرٍ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاة عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِي الله كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ الله عز وجل {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} وظلَّ النبي صلى الله عليه وسلم على تلك الحالة ليلة السابع عشر من شهر رمضان حتى أصبح.
عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ، إِلَّا رَسُولَ الله تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ (1)، وعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أيضًا قَالَ: أَصَابَنَا مِنْ اللَّيْلِ حشٌّ (2) مِنْ مَطَرٍ، فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ (3) نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا مِنْ الْمَطَرِ، وَبَاتَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدْعُو رَبَّهُ عز وجل وَيَقُولُ: “اللهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْفِئَةَ لَا تُعْبَدْ”، قَالَ: فَلَمَّا أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى: الصَّلَاةَ عِبَادَ الله فَجَاءَ النَّاسُ مِنْ تَحْتِ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ، فَصَلَّى بنا رَسُولُ الله – صلي الله عليه وسلم – وَحَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ قَالَ: “إِنَّ جَمْعَ قُرَيْشٍ تَحْتَ هَذِهِ الضِّلَعِ الْحَمْرَاءِ مِنْ الْجَبَلِ”، فَلَمَّا دَنَا الْقَوْمُ مِنَّا وَصَافَفْنَاهُمْ إِذَا رَجُلٌ مِنْهُم عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ يَسِيرُ في الْقَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ الله – صلي الله عليه وسلم -: “يَا عَلِيُّ نَادِ لِي حَمْزَةَ” -وَكَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ- وَمَاذَا يَقُولُ لَهُمْ؟ فَجَاءَ حَمْزَةُ فَقَالَ: هُوَ عُتْبَةُ بن رَبِيعَةَ، وَهُوَ يَنْهَى عَنْ الْقِتَالِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: يَا قَوْمُ إِنِّي أَرَى قَوْمًا مُسْتميتِينَ، لَا تَصِلُونَ إِلَيْهِمْ وَفِيكُمْ خيرٌ، يَا قَوْمُ اعْصِبُوهَا الْيَوْمَ بِرَأْسِي وَقُولُوا: جَبُنَ عُتْبَةُ بن رَبِيعَةَ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَسْتُ بِأَجْبَنِكُمْ، فَسَمِعَ ذَلِكَ أبو جَهْلٍ فَقَالَ: أَنْتَ تَقُولُ هَذَا، وَاللهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُ هَذَا لَأَعْضَضْتُهُ قَدْ مَلَأَتْ رِئَتُكَ جَوْفَكَ رُعْبًا، فَقَالَ عُتْبَةُ: إِيَّايَ تُعَيِّرُ يَا مُصَفِّرَ اسْتِهِ (4)؟ سَتَعْلَمُ الْيَوْمَ أَيُّنَا الْجَبَانُ، قَالَ: فَبَرَزَ عُتْبَةُ وَأَخُوهُ شَيْبَةُ وَابْنُهُ الْوَلِيدُ حَمِيَّةً، فَقَالُوا: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَخَرَجَ فِتْيَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ سِتَّةٌ، فَقَالَ عُتْبَةُ: لَا نُرِيدُ هَؤُلَاءِ، وَلَكِنْ يُبَارِزُنَا مِنْ بني عَمِّنَا مِنْ بني عبد الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ رَسُولُ الله – صلي الله عليه وسلم -: “قُمْ يَا عَلِيُّ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ، وَقُمْ يَا عُبَيْدَةُ بن الْحَارِثِ بن عبد الْمُطَّلِبِ” فَقَتَلَ الله تَعَالَى عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَي رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدَ بن عُتْبَةَ، وَجُرِحَ عُبَيْدَةُ رضي الله عنه (1).
حيث أَقْبَلَ حَمْزَةُ إِلَى عُتْبَةَ، وَأَقْبَل علىٌّ إلى شَيْبَة، وَاخْتُلِفَ بَيْنَ عُبَيْدَةَ وَالْوَلِيدِ ضَرْبَتَانِ، فَأَثْخَنَ (2) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ مِال عَلَى وحمزة على الْوَلِيدِ فَقَتَلَاه، وَاحْتَمَلَا عُبَيْدَةَ (3).
وفيهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] (4) فمات عبيدة رضي الله عنه بالصفراء (5) منصرفه من بدر فدُفن هنالك (6).
وكان النبي – صلي الله عليه وسلم – قد منع الجيش من التقدم أو الالتحام مع المشركين إلا أن يكون النبي – صلي الله عليه وسلم – هو المتقدم أولًا، فَقَالَ لهم: “لَا يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلى شَيءٍ حَتَّى أكُونَ أَنَا دُونَهُ” (7).
ونصح النبي – صلي الله عليه وسلم – جنده وأمرهم، فقَالَ لهم: “إِذَا أَكْثَبُوكُمْ (8) فَارْمُوهُمْ، وَاسْتَبْقُوا نَبْلَكُمْ” (9)، أي: ابقوا على نبلكم ولا تستعملوه حتى يقتربوا منكم،حفاظًا على السهام وحتى لا تنفذ من غير فائدة، فأمر النبي – صلي الله عليه وسلم – ألا يضربوا إلا مِنْ قريب، حتى تصيب القوم، فلما أقبل المشركون ودنوا من جيش المسلمين أخذ النبي – صلي الله عليه وسلم – ترابًا من الأرض ثم رماه في وجوه المشركين فما وقع منها شيء إلا في عين رجل منهم (1).
وفي ذلك يقول الله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
ثم أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجوم، فَقَالَ لهم: “قُومُوا إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ”، فقَالَ عُمَيْرُ بن الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ الله جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟! قَالَ: “نَعَمْ”، قَالَ: بَخٍ، بَخٍ (2).
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ، بَخٍ؟ “، قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ الله إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: “فَإنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا” فَأَخْرَجَ – عمير بن الحمام- تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ (3) فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ (4).
والْتحم الجيشان التحامًا شديدًا، وحمى الوطيس، وظهرت بطولات الصحابة رضي الله عنهم، يتقدمهم النبي – صلي الله عليه وسلم – فهو أشجع الشجعان، حتى إنَّ عليًا رضي الله عنه يقول: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ الله – صلي الله عليه وسلم – وَهُوَ أَقْرَبُنَا إلى الْعَدُوِّ،- وكَان مِنْ أَشَدِّ الناسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا (1).
ونزلت الملائكة في ميدان المعركة بقيادة الأمين جبريل عليه السلام.
قال ابن إسحاق:
خفق النبي – صلي الله عليه وسلم – خفقة في العريش ثم انتبه فقال: “أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله فهذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع” (2).
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِي – صلي الله عليه وسلم – قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: “هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ عَلَيهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ” (3).
وعن ابْن عَبَّاس رضي الله عنه أيضًا قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ في أَثَرِ رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فَنَظَرَ إلى الْمُشْرِكِ أمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الْأَنْصارِيُّ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ الله – صلي الله عليه وسلم – فَقَالَ: “صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ” (4).
وأسر رجل من المسلمين الْعَبَّاسَ بن عبد الْمُطَّلِب، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ هَذَا وَاللهِ مَا أَسَرَنِي، لَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ (5) مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ مَا أُرَاهُ في الْقَوْمِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَا أَسَرْتُهُ يَا رَسُولَ الله فَقَالَ: “اسْكُتْ، فَقَدْ أَيَّدَكَ الله تَعَالَى بِمَلَكٍ كَرِيمٍ” (1).
وفي ذلك يقول الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} أي: متتابعين {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: 9،10] (2).
مقتلُ عدو الله أبي جهل:
عَنْ عبد الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَما أَنَا وَاقِفٌ في الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ نَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ، حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا (3)، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقالَ: يَا عَمِّ، هَل تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ الله – صلي الله عليه وسلم – وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ (4) حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا، قَالَ: فتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخرُ، فَقَالَ: مِثْلَهَا، قَالَ: فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرتُ إلى أبي جَهْلٍ يَزُولُ في النَّاسِ (5)، فَقُلْتُ: أَلَا تَرَيَانِ؟ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلَانِ عَنْهُ، قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ فَضَرَبَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إلى رَسُولِ الله – صلي الله عليه وسلم – فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: “أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ ” فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُ، فَقَالَ: “هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيكُمَا؟ ” قَالَا: لَا، فَنَظَرَ في السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: “كِلَاكُمَا قَتَلَة”، وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بن عَمْرِو بن الْجَمُوحِ.
وَالرَّجُلَانِ مُعَاذُ بن عَمْرِو بن الْجَمُوحِ وَمُعَاذُ بن عَفْرَاءَ (1). وفي لفظ: وَهُمَا ابْنَا عَفْرَاءَ (2).
الزبير يقتل عُبيدة بن سعيد بن العاص:
عن الزُّبَيْر قال: لَقِيتُ يَوْمَ بَدْرٍ عُبَيْدَةَ بن سَعِيدِ بن الْعَاصِ وَهُوَ مُدَجَّجٌ (3) لَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا عَيْنَاهُ، وَهُوَ يُكْنَى أبو ذَاتِ الْكَرِشِ، فَقَالَ: أَنَا أبو ذَاتِ الْكَرِشِ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ بِالْعَنَزَةِ (4) فَطَعَنْتُهُ في عَيْنِهِ فَمَاتَ (5).
مقتل عدو الله أمية بن خلف:
بعد ما قَتَلَ أبطال المسلمين في بداية المعركة ثلاثة من أَلدِّ أعداء الإِسلام الذين طالما آذوا المسلمين، وصدوا عن سبيل الله وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وتمكنوا أيضًا في وسط المعركة من قتل صنديد آخر من صناديد قريش وهو أبو جهل، أعانهم الله في آخر المعركة على قتل واحدٍ من أَلدِّ أعداء الإِسلام في مكة، وأشدها ظلمًا لضعفاء المسلمين، وهو أمية بن خلف.
عن عبد الرحمن بن عوف قال: كان أمية بن خلف لي صديقًا بمكة، وكان اسمي عبد عمرو، فَتَسَمَّيتُ -حين أسلمتُ- عبد الرحمن، ونحن بمكة، فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سمَّاكه أبوك؟ فأقول: نعم، فيقول: فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئًا أدعوك به، أمَّا أنت فلا تجيبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك مما لا أعرف! قال: فكان إذا دعاني: يا عبد عمرو، لم أجبه، قال: فقلتُ له: يا أبا علي اجعل ما شئت، قال: فأنت عبد الإله، قال: فقلت نعم، قال: فكنت إذا مررتُ به قال: يا عبد الإله فأجيبه فأتحدث معه، حتى إذا كان يوم بدر مررتُ به وهو واقف مع ابنه عليّ بن أمية آخذ بيده، ومعي أدراع قد استلبتها، فأنا أحملها، فلما رآني قال لي: يا عبد عمرو، فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله فقلتُ: نعم، قال: هل لك فيَّ، فأنا خير لك من هذه الأدرع التي معك؟ قال: قلتُ: نعم، ها الله (1) إذًا، قال: فطرحتُ الأدراع من يدي، وأخذت بيده ويد ابنه وهو يقول: ما رأيتُ كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن -أي من أَسَرَني افتديتُ منه بإبل كثيرة اللبن- ثم خرجت أمشي بهما، فقال أمية بن خلف: يا عبد الإله، من الرجل منكم المعَلَّم بريشة نعامة في صدره؟ قال: قلتُ: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل، قال عبد الرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي – وكان هو الذي يعذب بلالًا بمكة على ترك الإِسلام-، فيخرجه إلى رمضاء (2) مكة إذا حَمِيَتْ، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتُوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا أو تُفارق دين محمَّد، فيقول بلال: أحدٌ أحد قال: فلما رآه قال: رأسُ الكفر أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا، قال: قلتُ: أي بلال، أَبِأَسيري؟! قال: لا نجوتُ إن نجا، قال: قلتُ: أتسمع يا ابن السوداء؟ قال: لا نجوتُ إن نجا، قال: فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المَسَكَة (1) وأنا أذبُّ عنه، قال: فأخلف رجلٌ السيفَ (2)، فضرب رِجْلَ ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعتُ مثلها قط، قال: فقلتُ: انج بنفسك، ولا نجاء بك، فوالله ما أُغْني عنك شيئًا، قال: فهبروهما (3) بأسيافهم، حتى فرغوا منهما، قال: فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالًا، ذَهَبتْ أدراعي، وفجعني بأسيري (4).
فانتهت المعركة بهزيمة المشركين هزيمة نكراء، ونصر كبير للمسلمين.
عدد القتلي والأسرى من المشركين في المعركة:
عن الْبَرَاء بن عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: وكان النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ أَصَابُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً، سَبْعِينَ أَسِيرًا، وَسَبْعِينَ قَتِيلًا (5).
بعد انتهاء المعركة:
عن أَنَس بن مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ يَنْطرُ لَنَا مَا صَنِعَ أبو جَهْلٍ؟ “، فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَكَ، قَال: فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ: آنْتَ أبو جَهْلٍ؟ فَقَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ (6) أَوْ قَالَ:قَتَلَهُ قَوْمُهُ، ثم قَالَ أبو جَهْلٍ: فَلَوْ غَيْرُ أَكَّارٍ قَتَلَنِي (1).
ومما حدث أيضًا بعد إنتهاء المعركة أَنَّ النَّبِيَّ – صلي الله عليه وسلم – أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا في طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخبِثٍ – وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ (2) ثَلَاثَ لَيَالٍ -، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا، ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ (3) فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: “يَا فُلَانُ بن فُلَانٍ، وَيا فُلَانُ بن فُلَانٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنكُمْ أَطَعْتُمْ الله وَرَسُولَهُ، فَإنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا” فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا رْوَحَ لَهَا، فَقَالَ رَسُولُ الله – صلي الله عليه وسلم -: “وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ”، قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمْ الله حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنَقِيمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا (4).
ثم تحرك النبي – صلي الله عليه وسلم – من بدرٍ راجعًا إلى المدينة، حتى إذا كان رسول الله – صلي الله عليه وسلم – بالصفراء قتل النضر بن الحارث قتله علىُّ بن أبي طالب، ثم خرج حتى إذا كان بعرْق الظبية قتل عقبة بن أبي معيط وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قَالَتْ: لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ في فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ، بَعَثَتْ زَيْنَبُ في فِدَاءِ أبي الْعَاصِ بِمَالٍ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ عِنْدَ خَدِيجَةَ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أبي الْعَاصِ قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ الله – صلي الله عليه وسلم – رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: “إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا”، قَالُوا: نَعَمْ، وَكَانَ رَسُولُ الله – صلي الله عليه وسلم – أَخَذَ عَلَيْهِ، أَوْ وَعَدَهُ، أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ زَيْنَبَ إِلَيْهِ (1).
وكان النبي – صلي الله عليه وسلم -لما فرغ من بدر- قد أرسل بشيرين إلى أهل المدينة، بعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة، وبعث عبد الله بن رواحة إلى أهل العالية يبشرونهم بفتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، فوافق زيد بن حارثة ابنه أسامة حين سوى التراب على رقية بنت رسول الله – صلي الله عليه وسلم -، فقيل له: ذاك أبوك حين قدم قال أسامة: فجئتُ وهو واقف للناس يقول: قُتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل ابن هشام ونُبيه ومنبِّه وأمية بن خلف فقلتُ: يا أبت أحق هذا؟ قال: نعم والله يا بنيَّ (2).
وقسَّم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم على الصحابة رضوان الله عليهم.
عَنْ عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا، فَالْتَقَى النَّاسُ فَهَزَمَ الله تبارك وتعالى الْعَدُوَّ، فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ في آثَارِهِمْ يَهْزِمُونَ وَيَقْتُلُونَ، فَأَكَبَّتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَسْكَرِ يَحْوُونَهُ وَيَجْمَعُونَهُ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ الله – صلي الله عليه وسلم – لَا يُصِيبُ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيلُ وَفاءَ النَّاسُ بَعْضهُمْ إلى بَعْضٍ، قَالَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ: نَحْنُ حَوَيْنَاهَا وَجَمَعْنَاهَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ، وَقَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا في طَلَبِ الْعَدُوِّ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا نَحْنُ أَحْدَقْنَا بِرَسُولِ الله – صلي الله عليه وسلم -، وَخِفْنَا أَنْ يُصِيبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً، وَاشْتَغَلْنَا بهِ، فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] فَقَسَمَهَا رَسُولُ الله – صلي الله عليه وسلم – عَلَى فَوَاقٍ بَينَ الْمُسْلِمِينَ (1).
وحدث أيضًا كما يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: جِئْتُ إلى النَّبِي – صلي الله عليه وسلم – يَوْمَ بَدْرٍ بِسَيْفٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ الله قَدْ شَفَى صَدْرِي الْيَوْمَ مِنْ الْعَدُوِّ، فَهَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ، قَالَ: “إِنَّ هَذَا السَّيفَ لَيسَ لِي وَلَا لَكَ”، فَذَهَبْتُ وَأَنَا أَقُولُ: يُعْطَاهُ الْيَوْمَ مَنْ لَم يُبْلِ بَلَائِي! فَبَيْنَا أَنَا إِذْ جَاءَنِي الرَّسُولُ – صلي الله عليه وسلم -، فَقَالَ: “أَجِبْ”، فَظَنَنْتُ أنَّهُ نَزَلَ فِئ شَيءٌ بِكَلَامِي، فَجِئْتُ فَقَالَ لِي النَّبِي – صلي الله عليه وسلم -: “انَّكَ سَألْتَنِي هذَا السَّيفَ، وَلَيْسَ هُوَ لِي وَلَا لَكَ، وَإِنَّ الله قَدْ جَعَلَهُ لِي، فَهُوَ لَكَ” ثمَّ قَرَأَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] (2).
وأما عن الأسرى:
فعن عمر رضي الله عنه قال: فَلَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى، قَالَ رسُولُ الله – صلي الله عليه وسلم – لِأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ: “ما تَرَوْنَ في هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟ ” فَقَالَ أبو بَكْرٍ: يَا نَبِي الله هُمْ بنو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ منهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، فَعَسَى الله أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله – صلي الله عليه وسلم -: “مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ “، قُلْتُ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ الله مَا أرَى الَّذِي رَأَى أبو بَكْرٍ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ -نَسِيبًا لِعُمَرَ- فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا، فَهَوِيَ رَسُولُ الله – صلي الله عليه وسلم – مَا قَالَ أبو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ الله – صلي الله عليه وسلم – وَأبو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاء بَكَيتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا، فَقَالَ رَسُولُ الله – صلي الله عليه وسلم -: “أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخذِهمْ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ” – شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِي الله صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلَ الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال:67 – 69] فَأَحَلَّ الله الْغَنِيمَةَ لَهُمْ (1).
ففدى النبي – صلي الله عليه وسلم – الأُسارى بمال.
وجاء في بعض الروايات أن قدر الفدية كان أربعة آلاف درهم (2).
وعن أَنَس بن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ الله – صلي الله عليه وسلم – فَقَالُوا: ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ، قَالَ: وَاللهِ لَا تَذَرُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا (3).
وقال النَّبِي – صلي الله عليه وسلم – في أُسَارَى بَدْرٍ: “لَوْ كَانَ الْمُطعِمُ بن عَدِيٍّ حَيا ثُمَّ كَلَّمَنِي في هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتهُمْ لَهُ “
فضائل من شهد بدرًا من الصحابة والملائكة:
عَنْ رِفَاعَة بن رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ -وهو مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ- قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قَالَ: “مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ” -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ (1).
وقَالَ النَّبِي – صلي الله عليه وسلم – لعمر بن الخطاب لما قَالَ للنبي صلى الله عليه وسلم -في قصة حاطب بن أبي بلتعة- دَعْنِي يَا رَسُولَ الله أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ له رسول الله – صلي الله عليه وسلم -: “إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الله اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ” (2).
وجاء عبد لِحَاطِب يَشْكُو حَاطِبًا للنبي – صلي الله عليه وسلم – وقَالَ: يَا رَسُولَ الله لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ الله – صلي الله عليه وسلم -: “كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ” (3).
وأُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ حارثة وَهُوَ غُلَامٌ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ إلى النَّبِيّ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي، فَإِنْ يَكُنْ في الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأحْتَسِبْ، وَإِنْ تَكُ الْأُخْرَى تَرَى مَا أَصْنَعُ؟ فَقَالَ رسول الله – صلي الله عليه وسلم -: “وَيْحَكِ أَوَهَبِلْتِ أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ في جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ”
خَلَّف النبيُّ – صلي الله عليه وسلم – عثمانَ بن عفان وأسامة بن زيد رضي الله عنهم على رقية وهي مريضة،وخرج إلى بدر وهي وجعة، فماتت رضي الله عنها قبل رجوع النبي – صلي الله عليه وسلم – من بدر إلى المدينة، وقام بدفنها زوجها عثمان رضي الله عنه
خرج عمير بن عدي رضي الله عنه إلى عصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد، لخمس ليالٍ بقين من شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهرًا من مُهاجر رسول الله – صلي الله عليه وسلم -، وكانت عصماء عند يزيد بن زيد، وكانت تعيبُ الإِسلام، وتؤذي النبي – صلي الله عليه وسلم – وتحرض عليه، وتقول الشعر، فجاءها عمير بن عدي في جوف الليل، حتى دخل عليها بيتها، وحولها نفر من ولدها نيام منهم من ترضعه في صدرها، فجسها بيده، وكان ضرير البصر، ونحّى الصبي عنها، ووضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من ظهرها، ثم صلى الصبح مع النبي – صلي الله عليه وسلم – بالمدينة، فقال له رسول الله – صلي الله عليه وسلم -: “أقتلتَ ابنة مروان؟ ” قال: نعم، فهل عليَّ في ذلك من شيء فقال: “لا ينتطحُ فيها عنزان” فكانت هذه الكلمة أول ما سُمِعت من رسول الله – صلي الله عليه وسلم -، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم عُميرًا البصير
وفي هذا العام سن الله للعالم الإِسلامي سنة عظيمة، بها يتمكن أبناء البلد الواحد من المسلمين أن يُجددوا عهود الإخاء، ويقووا عروة الدين الوثقى،وهي الاجتماع في يومي عيد الفطر، وعيد الأضحى، وكان عليه الصلاة والسلام يجمع المسلمين في صعيد واحد، ويصلي بهم ركعتين تضرعًا إلى الله أن لا يفصم عُروتهم، وأن ينصرهم علي عدوهم، ثم يخطبهم حاضًا لهم على الائتلاف، مذكرًا لهم ما يجب عليهم لأنفسهم
كانت سرية سالم بن عمير رضى الله عنه إلى أبي عَفَكٍ اليهودي في شوال على رأس عشرين شهرًا من مُهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو عفك من بني عمرو بن عوف شيخاً كبيرًا قد بلغ عشرين ومائة سنة، وكان يهوديًا، وكان يُحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول الشعر، فقال سالم بن عمير -وهو أحد البكائين وممن شهد بدرًا- علىَّ نذرٌ أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه، فأمهل يطلب له غِرَّة، حتى كانت ليلة صائفة، فنام أبو عفك بالفناء، وسمع به سالم بن عمير، فأقبل فوضع السيف على كبده، ثم اعتمد عليه حتى خشَّ في الفراش، وصاح عدو الله، فثاب إليه ناسٌ ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله وقبروه.
فقالت أمامة الزيدية في ذلك:
تُكذِّب دين الله والمرءَ أحمدا … لَعمرُ الذي أمْناكَ أنْ بئس ما يُمني
حباك حَنيفٌ آخر الليل طعنةً … أبا عُفَكٍ خُذْها على كَبْرَةِ السِّنِّ
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة -أيْ بعد بدر- لم يقم بها إلا سبع ليالٍ حتى غزا بنفسه يُريدُ بني سليم.
قال ابنُ هشام رحمه الله:
واستعمل على المدينة سباعَ بن عُرْفُطَة الغِفاريَّ، أو ابن أُمِّ مكتوم.
قال ابن إسحاق رحمه الله:
فبلغ ماءً من مياههم يُقالُ له الكُدْر فأقام عليه ثلاث ليالٍ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا، فأقام بها بقية شوال وذا القعدة، وأُفْدي في إقامته تلك جُلُّ الأُسارى من قريش
فك النبي صلى الله عليه وسلم أسر أبي العاص بن الربيع يوم بدر على أن يخلي سبيل زينب رضى الله عنها. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم زَيدَ بن حَارِثَةَ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ ليأتيا بزينب رضى الله عنها، وقَالَ لهما: “كُونَا بِبَطْنِ يَأْجَجَ (1)، حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ فَتَصْحَبَاهَا حَتَّى تَأْتِياني بِهَا” (2).
فخرجا مكانهما، وذلك بعد بدر بشهر أو قريب منه، ولما قدم أبو العاص بن الربيع مكة أمرها باللحوق بأبيها فخرجتْ تجهَّز، فلقيتها هند بنت عتبة، فقالت: يا بنت محمد ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك؟ فقالت: ما أردت ذلك، فقالت: أي ابنة عمي، لا تفعلي، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك، أو بمال تتبلغين به إلى أبيك، فإن عندي حاجتك، فلا تضْطَّني (3) مني فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال، تقول زينب: والله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل، ولكني خِفتُها، فأنكرت أن أكون أريد ذلك، وتجهَّزتُ.
فلما فرغتْ من جهازها قدم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها، بعيرًا فركبته، وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارًا، وهي في هودج لها، وتحدث بذلك رجال من قريش، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبَّارُ بن الأسود بن المطلب بن أسد، فروعها هبَّار بالرُمح، وهي في هودجها، وكانت المرأة حاملاً- فيما يزعمون- فلما ريعت طرحتْ ذا بطنها (4) وبرك حموها كنانة، ونثر كنانته، ثم قال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهمًا، فتكركر الناس عنه وأتى أبو سفيان في جله من قريش، فقال: أيها الرجل، كفَّ عنا نبلك حتى نكلمك، فكف، فأقبل أبوسفيان حتى وقف عليه، فقال: إنك لم تصب، خَرَجْتَ بالمرأة على رءؤس الناس علانية وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا، وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت بابنته إليه علانية على رؤوس الناس من بين أظهرهنَّ أن ذلك عن ذلِّ أصابنا عن مصيبتنا التي كانت وأن ذلك منا ضعفٌ ووهن، ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، ومالنا في ذلك من ثؤرة (1)، ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصواتُ، وتحدث الناس أن قد رددناها، فَسُلَّها سرًا وألحقها بأبيها.
ففعل، فأقامت ليالي، حتى إذا هدأت الأصوات خرج بها ليلاً حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه فقدما بها على رسول الله-صلى الله عليه وسلم
تزوج علىٌّ رضى الله عنه فاطمة رضى الله عنها – في أواخر السنة الثانية- كما رجَّح ذلك ابن كثير رحمه الله (3).
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنه قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “أَعْطِهَا شَيئًا”، قَالَ: مَا عِنْدِي شَئءٌ، قَالَ: “أَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ؟ ” (4) فكان هذا هو مهر بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان قد جلس عمير مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش بيسير في الحِجْر، وكان عمير ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويلقون منه عناءً وهو بمكة، وكان ابنه وهب ابن عمير في أُسارى بدر.
فذكر أصحاب القليب ومُصابهم، فقال صفوان: والله إنْ في العيش بعدهم خير (2) قال له عمير: صدقت والله أما والله لولا دَيْنٌ علىَّ ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبتُ إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قِبَلَهُمْ علةً؛ ابني أسير في أيديهم، فاغتنمها صفوان وقال: عليَّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم، فقال له عُميرِ: فاكتم عني، قال: أفعل.
قال: ثم أمر عمير بسيفه، فشُحِذ له (3) وسُمَّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم من عدوهم، إذ نظر عمر إلى عُمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحًا السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، والله ما جاء إلا لشرٍّ، وهو الذي حرَّش بيننا (1)، وحَزَّرَنا (2) للقوم يوم بدرٍ.
ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عُمير بن وهب قد جاء متوشحًا سيفه، قال: “فأدخله عليَّ” قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبَّبه بها، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: ((أرسله يا عمر، ادنُ يا عُمير)) فدنا ثم قال: انْعَمُوا صباحاً- وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أكرمنا الله بتحية غير تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة)) فقال: أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث عهد، قال: ((فما جاء بك يا عمير؟)) قال: جئتُ لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه، قال: ((فما بالُ السيف في عُنقك؟)) قال: قبحها الله من سيوف! وهل أغنتْ عنا شيئًا؟! قال:”اصدقني، ما الذي جئت له؟)) قال: ما جئتُ إلا لذلك، قال: ((بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحِجْر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دَيْنٌ عليَّ وعيال عندي لخرجتُ حتى أقتل محمدًا، فتحمل لك صفوان بِدَينكَ وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك)) قال عمير: أشهد أنك رسول الله قد كنا يا رسول الله نُكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد عمير شهادة الحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فَقِّهوا أخاكم في دينه وأَقْرِءوه القرآن وأطلقوا له أسيره” ففعلوا، ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل، وأُحِبُّ أن تأذن لي، فأقدم مكة، فأدعوهم إلى الله تعالى، وإلى رسوله- صلى الله عليه وسلم وإلى الإِسلام لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم، قال: فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق بمكة.
وكان صفوان بن أمية حين خرج عمير من مكة يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام، تُنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عن الرُّكبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف ألَّا يُكَلَّمه أبدًا، ولا ينفعه بنفع أبدًا
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهد أهل المدينة -كما تقدم- بعد وصوله إليها صلى الله عليه وسلم، وكانت اليهود ومنهم يهود بني قينقاع من أهل هذه المعاهدة، وكان من شروط هذه المعاهدة ألا يعتدي طرفٌ على الآخر، وألا يغدر طرف بالآخر.
ولكن اليهود كعادتهم منذ وُجِدوا على وجه هذه البسيطة لا عهد لهم ولا ميثاق ولا ذمة، قوم غُدُرٌ، قوم ملئوا الدنيا غدرًا وفسادًا، ووقيعة بين أهل الأرض.
فلما كان هذا هو طبع اليهود ودأبهم الذي لا يَنْفَكُّ عنهم، لم يحفظ يهود بني قينقاع ما عاهدوا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحترموه، فكان جزاؤهم أن أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة، ليرتاح ويريح مَنْ بالمدينة منهم.
أما عن تفاصيل ما فعلوه، وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بهم، فيرويه ابن إسحاق رحمه الله فيقول:
وكان من حديث بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بني قينقاع، ثم قال: “يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم” قالوا: يا محمد، إنك ترى أنَّا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنَّا والله لئن حاربنا لتعلمن أنَّا نحن الناس.
فما نزل هؤلاء الآيات إلا فيهم: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} أي: أصحاب بدر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقريش {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)} [آل عمران:12، 13].
فكان بنو قينقاع أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأُحد فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على مكة، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول، حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد أحسن في موالي، وكانوا حلفاء الخزرج، فأبطأ عليه رسول الله، فقال: يا محمد أحسن في موالي، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:”أرسلني”، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللاً (1)، ثم قال: ((ويحك! أرسلني))، قال: لا، والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعُ مئة حاسر (2) وثلاثُ مئة دارع (3)، قد منعوني الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”هم لك”، وأمر بهم أن يجلوا عن المدينة وتولى أمر إجلائهم عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات، وتولى قبض أموالهم محمد بن مسلمة، حيث تم تقسيمها بين الصحابة بعد إخراج الخمس للرسول صلى الله عليه وسلم.
حيث مشى عبادة بن الصامت رضى الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أحد بني عوف لهم في حِلْفِه مثلُ الذي لهم من عبد الله بن أُبىّ، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ إلى الله عز وجل، وإلى رسول الله من حِلْفِهم، وقال: يا رسول الله أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم، ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت هذه القصة من المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: كعبد الله بن أبي وقوله: إني أخشى الدوائر {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)} إلى قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} [المائدة:51 – 56] (1).
واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في محاصرته إياهم بَشير بن عبد المنذر، وكانت محاصرته إياهم خمس عشرة ليلة (2).
وذكر ابن هشام سببًا آخر للغزوة فقال:
كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب (3) لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعهد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديًا، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع
كان أبو سفيان بن حرب نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدًا صلى الله عليه وسلم، فخرج في مئتي راكبٍ من قريش، لِيبرَّ يمينه، فسلك النجدية، حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له ثَيْب، من المدينة على بريد أو نحوه، ثم خرج من الليل، حتى أتى بني النضير تحت الليل، فأتى حُييَّ بن أخطب، فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له بابه وخافه، فانصرف عنه إلى سلَاّم بن مِشْكَم، وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك، وصاحا كنزهم (2)، فاستأذن عليه، فأذن له، فقراه (3) وسقاه وبطن له من خبر الناس (4)، ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث رجالاً من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية منها، يقال لها: العُريض، فحرقوا فيه أصوار (5) من نخل بها، ووجدوا بها رجلاً من الأنصار وحليفًا له في حرث لهما، فقتلوهما، ثم انصرفوا راجعين، ونذر بهم الناس (6)، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم حتى بلغ قَرْقَرُة الكُدْر، ثم انصرف راجعًا، وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، وقد رأوا أزوادًا من أزواد القوم قد طرحوها في الحرث يتخففون منها للنجاء (1) فقال المسلمون، حين رجع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال: “نعم”.
واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة بَشير بن عبد المنذر وهو أبو لبابة.
وإنما سُمِّيتْ غزوة السَّويق (2) ، لأن أكثر ما طرح القوم من أزوادهم السويق، فهجم المسلمون على سويق كثير، فسُميتْ غزوة السويق
توفي بعد شهوده بدرًا في السنة الثانية من الهجرة، وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين، وأول من دفن بالبقيع منهم (5).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بن مَظعُونٍ، قَالَتْ امْرَأَةٌ – وفي رواية: امرأته-: هَنِيئًا لَكَ الْجَنَّةُ عُثْمَانَ بن مَظْعُونٍ، فَنَظَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَيهَا نَظَرَ غَضْبَانَ، فَقَالَ: ((وَمَا يُدْرِيكِ؟))، قَالَت: يَا رَسُولَ الله، فَارِسُكَ وَصَاحِبُكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “وَاللهِ إِنِّي رَسُولُ الله وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي”، فَأَشْفَقَ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ، فَلَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ ابْنَةُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “الْحَقِي بِسَلَفِنَا الصَّالِحِ الْخَيْرِ عُثْمَانَ بن مَظْعُونٍ”، فَبَكَتْ النِّسَاءُ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ وَقَالَ: “مَهْلًا يَا عُمَرُ”، ثُمَّ قَالَ: ((ابْكِينَ وَإِيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ))، ثُمَّ قَالَ: “إِنَّهُ مَهمَا كَانَ مِنْ الْعَينِ وَالْقَلْبِ فَمِنْ الله عزوجل وَمِنْ الرَّحْمَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنْ الشَّيْطَانِ”
كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعاقل، وكانت مُعلقة بسيفه (2).
والمعاقل أي: الديات، وتسمى الدية بالعقل، وأهل ذلك أن القاتل كان إذا قتل قتيلًا جمع الدية من الإبل، فعقلها بفناء أولياء المقتول، أي: شدها بعقُلها لتسليمها إليهم، يقال: عَقَلْت عن فلان إذا غرمت عنه دية جنايته (1).
وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم الديات في النَّفْسِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي ألْأَنْفِ إِذَا أُوعِيَ جَدْعًا: مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ (2): ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ (3): مِثْلُهَا، وَفِي الْعَيْنِ: خَمْسُونَ، وَفِي الْيَدِ: خَمْسُونَ، وَفِي الرِّجْلِ: خَمْسُونَ، وَفِي كُلِّ أُصبُعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ، وَفِي الْمُوضِحَةِ (4) خَمْسٌ
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين (6)، فإذا صلى وخطب أُتى بأحدهما وهو قائم في الصلاة، فيذبحه بيده بالمُدية، ثم يقول:”هذا عن أمتي جميعًا، ممن شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ”، ثم يُؤتى بالآخر فيذبحه هو عن نفسه، ثم يقول:”هذا عن محمد وآل محمد” فيأكل هو وأهله منه، ويُطعم المساكين، وكان يذبح عند طرف الزقاق عند دار معاوية