أحداث السنة الحادية عشرة لبعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم
The events of the eleventh year of the Prophet Muhammad's mission
عن جابر ابن عبد الله قال: اجتمعت قريش يومًا، فقالوا انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجلالذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة، فقال: يا محمد أنت خير … أم عبد الله؟ فسكت صلى الله عليه وسلم، “ثم قال: أنت خير أم عبد المطلب؟ ” فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الألهة التي عبتها، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرًا، [وأن في قريش كاهنًا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى أيها الرجل]، إن كان أنما بك الباءة، فاختر أي نساء قريش ولنزوجك عشرًا، وإن كان أنما بك الحاجة، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلًا واحدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرغت؟ قال: نعم، فقرأ رسول صلى الله عليه وسلم: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فقال عتبة: حسبك حسبك ما عندك غير هذا؟ قال: لا، فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئًا أرى أنكم تكلمونه به إلا وقد كلمته به، فقالوا: فهل أجابك؟ قال: نعم، قال: لا والذي نصبها بنية [ما فهمت شيئًا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا: ويلك يكلمك رجل بالعربية لا تدري ما قال؟ قال: لا والله] ما فهمت شيئًا مما قال غير ذكر الصاعقة.
عتبة بن ربيعة يفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدًا، قال يومًا وهو جالس في نادى قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون؛ فقالوا: بلى يا أباالوليد، قم إليه فكلمه؛ فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطة (1) في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قل يا أبا الوليد، أسمع”، قال: يا بن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سوَّدناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا (2) تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له. حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: “أقد فرغت يا أبا الوليد؟ ” قال: نعم؛ قال: “فاسمع منّي”؛ قال: أفعل؛ فقال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} (3)، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يسمع منه؛ ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: “قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك”.
قريش تفتن المسلمين
قال ابن إسحاق: ثم إنّ الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء، وقريش تحبس من قدرت على حبسه، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين.
أبو جهل يتوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فلما قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو جهل: يا معشر قريش، إن محمدًا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدًا بحجر ما أطيق حمله -أو كما قال- فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم. قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدًا، فامض لما تريد.
فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرًا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقبلته إلى الشام؛ فكان إذا صلّى صلّى بين الركن اليماني والحجر الأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله – صلىالله عليه وسلم – احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزمًا منتقعًا لونه مرعوبًا قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش، فقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته، ولا مثل قصرته (1) ولا أنيابه لفحل قط، فهم بي أن يأكلني.
قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ذلك جبريل عليه السلام، لو دنا لأخذه.
روى الحاكم بسنده عن برة بنت أبي تجرأة قالت: كانت قريش لا تنكرُ صلاة الضحى إنما تنكرُ الوقت، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا جاء وقت العصر تفرقوا إلى الشعاب فصلُّوا فرادى ومثنى، فمشى طليب بن عمير وحاطب بن عبد شمس يصلون بشعب أجياد، بعضهم ينظر إلى البعض، إذ هجم عليهم ابن الأصيدي وابن القبطية، وكانا فاحشين، فرموهم بالحجارة ساعةً، حتى خرجا وانصرفا وهما يشتدان وأتيا أبا جهل وأبا لهب وعقبة بن أبي معيط: فذكروا لهم الخبر فانطلقوا لهم في الصبح، وكانوا يخرجون في غلس الصبح فيتوضَّئون ويصلُّون، فبينما هم في شعبٍ إذ هجم عليهم أبو جهل وعقبة وأبو لهب وعدةٌ من سفهائهم فبطشوا بهم فنالوا منهم، وأظهر أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الإسلام وتكلموا به ونادوهم وذبوا عن أنفسهم، وتعمد طليب بن عمير إلى أبي جهل فضربه شجةً فأخذوه وأوثقوه، فقام دونه أبو لهب حتى حله وكان ابن أخته. فقيل لأروى بنت عبد المطب ألا ترين إلى ابنك طليب قد اتَّبع محمدًا وصار عرضًا له، وكانت أروى قد أسلمت، فقالت: خير أيام طليب يوم يذبُّ عن ابن خاله، وقد جاء بالحق من عند الله تعالى، فقالوا: وقد اتَّبعتِ محمدًا؟ قالت: نعم، فخرج بعضهم إلى أبي لهب فأخبره فأقبل حتى دخل عليها فقال: عجبًا لكِ ولاتَّباعكِ محمدًا، أوتركت دين عبد المطلب؟ قالت: قد كان ذلك، فقمدون ابن أخيك فأعضده وامنعه فإن ظهر أمره فأنت بالخيار، إن شئت أن تدخل معه أو تكون على دينك، وإن لم تكن؛ كنت قد أعذرت ابن أخيك، قال: ولنا طاقةٌ بالعرب قاطبةً؟ ثم يقولون إنه جاء بدين محدثٍ. قال: ثم انصرف أبو لهب.
قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي.
قال ابن هشام: ويقال النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف.
قال ابن إسحاق: فقال: يا معشر قريش، إنه والله قد أنزل بكم أمر ما أتيتم له بحلية بعد، قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم شاعر، لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها: هزجه ورجزه، وقلتم مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم (3).
أذى النضر للرسول صلى الله عليه وسلم:
وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصب له العدواة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا فذكر فيه بالله، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم منالأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يا معشر قريش، أحسن حديثًا منه، فهلم إليَّ فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس، ورستم واسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثًا مني؟.
قال ابن هشام: وهو الذي قال فيما بلغني؛ سأنزل مثل ما أنزل الله.
قال ابن إسحاق: وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: فيما بلغني: نزل فيه ثمان آيات من القرآن: قول الله عز وجل: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (1). وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن.
فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه، وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما: اسألاهم عن محمد، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وأخبروهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا؛ فقالت لهما أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبيّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؛ فإنه قد كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هي؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه، فإنه نبيّ، وإن لم يفعل، فهو رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن مناف بن قصيّ حتى قدما مكة على قريش، فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبيّ، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم.قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ قال: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أخبركم بما سألتم عنه غدًا” (1)، ولم يستثن، فانصرفوا عنه. فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما يذكرون- خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل، حتى أوجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غدًا، واليوم خمس عشرة ليلة، قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشقّ عليه ما يتكلم به أهل مكة: ثم جاءه جبريل من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إيّاه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطوّاف والروح.
قال: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله قال: انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، حتى ذهبت فرقة منه خلف الجبل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا (1).
عن جبير بن مطعم، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى صار فرقتين، على هذا الجبل، وعلى هذا الجبل فقالوا: سحرنا محمد. فقال بعضهم: لئن كان سحرنا، فما يستطيع أن يسحر الناس كلهم. [صحيح الإسناد].
عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه رضي الله عنه، قال: انشق القمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة حتى رأيت حراء بين شقّتيه (2).
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مثل حديث قبله قال: “انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقتين، فستر الجبل فلقة، وكانت فلقة فوق الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهم اشهد” (3).
روى أبو داود الطيالسي بسنده عن عبد الله بن مسعود، قال: “انشق القمر بمكة” فقالت قريش: هذا سحر سحركموه ابن أبي كبشة، فقال بعضهم: انظروا إلىالسفار يقدمون عليكم، فإن محمدًا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فإن رأوا مثل الذي رأيتم فهو حق، فقدموا، فسألوهم، فقالوا قد رأينا قد انشق
أخرج الإمام مسلم في صحيح وأبو عوانة الإسفرائيني وأبو داود الطيالسي في مسنديهما عن عامر، قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن. قال، فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليله الجن؟ قال: لا ولكنا فقدناه ونحن بمكة ذات ليلة فالتمسناه في الأودية والشعب فقلنا: أستطير أو اغتيل قال: فبتنا بشر ليله بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء قال. قلنا: يا رسول الله. فقدناك فطلبناك فلم نجدك. فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن”. قال: فانطلق بنا فأرانا آثار نيرانهم. وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم”.
وقال عكرمة لقي المشركون أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم فأنزل الله تعالى {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ..} إلى قوله: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم فوالله ليظهرن الله الروم على فارس أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فقام إليه أبي بن خلف الجمحي فقال كذبت يا أبا فصيل فقال له: أبو بكر أنت أكذب يا عدو الله فقال أناحبك عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فأخبره فقال: ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادَّه في الأجل فخرج أبو بكر فلقي أبيًا فقال: لعلك ندمت فقال: لا تعالى أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل فأجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين قال قد فعلت فظهرت الروم على فارس قبل ذلك فغلبهم المسلمون
كان النّبي صلّى الله عليه وسلم، خلال هذه الفترة كلها، يعرض نفسه في موسم الحج من كل سنة على القبائل التي تتوافد إلى البيت الحرام، يتلو عليهم كتاب الله ويدعوهم إلى توحيد الله فلا يستجيب له أحد.
يقول ابن سعد في طبقاته: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوافي الموسم كل عام يتّبع الحجاج في منازلهم في المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربّه ولهم الجنة، فلا يجد أحدا ينصره، ويقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتذلّ لكم العجم، وإذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنة» ، وأبو لهب وراءه يقول: «لا تطيعوه فإنه صابئ كاذب» ، فيردون على رسول الله أقبح الرّد ويؤذونه» «٣٠» .
وروى ابن إسحاق عن الزهري: «أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلم أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء، قال، فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك» .
1- قبيلة بني عامر بن صعصعة
كانت قبيلة قوية ومشهورة، فعرض عليهم النبي ﷺ الإسلام.
ردّ عليه أحد زعمائهم (بحيرة بن فراس) قائلاً:
“أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟”
فلما أجابه النبي ﷺ بأن الأمر بيد الله، رفضوا دعوته لأنهم أرادوا السلطة مقابل النصرة.
- قبيلة كندة
جاء النبي ﷺ إلى زعيمهم أبو مالك الكندي، وعرض عليه الإسلام، لكنه لم يستجب.
بعض أفراد كندة أسلموا لاحقًا، مثل الأشعث بن قيس في زمن النبي ﷺ.
- قبيلة تميم
لم يبدوا اهتمامًا بالدعوة، وكانوا أكثر تركيزًا على الجوانب القبلية والمنافسات السياسية.
بعضهم أسلم لاحقًا بعد فتح مكة.
- قبيلة غسان (حلفاء الروم)
كانوا حكامًا في الشام، وعرض عليهم الإسلام، لكنهم خشوا مواجهة الروم ورفضوا.
- قبيلة سليم وهوازن
لم يكن ردهم عنيفًا، لكنهم لم يظهروا اهتمامًا بقبول الإسلام في البداية.
شارك بعضهم في حرب حنين ضد المسلمين، لكنهم أسلموا لاحقًا بعد الهزيمة.
- قبيلة بني شيبان
من أكثر القبائل التي ناقشت النبي ﷺ بجدية.
كان من زعمائهم المثنى بن حارثة الشيباني، الذي قال:
“نحن في حلف مع الفرس، ولا نقدر على نصرتك ضدهم، لكن إن كنت تريد منا حماية داخل الجزيرة العربية، فنحن معك.”
النبي ﷺ لم يقبل العرض لأن الدعوة تحتاج إلى حماية كاملة، وليس جزئية.
لاحقًا، أسلم بعض بني شيبان بعد الفتح الإسلامي.
- قبائل الأوس والخزرج (أهل يثرب – المدينة)
أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ما أقام يدعو القبائل إلى الله فذكر الحديث وفيه: حتى أراد الله إظهار دينه ونصر نبيه وإنجاز ما وعده، فساقه إلى هذا الحي من الأنصار لما أراد الله به من الكرامة، فانتهى إلى نفر منهم وهم يحلقون رؤوسهم، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فاستجابوا لله ولرسوله فأسرعوا وآمنوا وصدقوا وآووا ونصروا وواسوا، وكانوا والله أطول الناس ألسنة وأحدهم سيوفا ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من مكة فمر على نفر من أهل يثرب نزول بمنى ثمانية نفر، منهم: من بني النجار معاذ ابن عفراء، وأسعد بن زرارة، فعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلموا وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تمنعون لي ظهري حتى أبلغ رسالة ربي؟ ” فقالوا: يا رسول الله نحن مجتهدون لله ولرسوله، نحن، فاعلم، أعداء متباغضون، وإنما كانت وقعة بعاث، عام الأول، يوم من أيامنا اقتتلنا فيه، فإن تقدم ونحن كذا لا يكون لنا عليك اجتماع فدعنا حتى نرجع إلى عشائرنا لعل الله يصلح ذات بيننا، وموعدك الموسم العام المقبل.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام، أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد عزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيًا مبعوث الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا.