أحداث السنة الخامسة من هجرة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم

Events of the fifth year of the Hijrah of the Messenger of Allah, Muhammad (peace and blessings of Allah be upon him)

قاد الرسول صلى الله عليه وسلم جيشًا من ألف مقاتل في شهر ربيع الأول من سنة خمس باتجاه دومة الجندل، وقد بلغه وجود تجمع للمشركين بها، ولكن الجمع تفرق عندما علموا بقدوم المسلمين الذين أقاموا أيامًا في المنطقة بثُّوا خلالها السرايا فلم يلقوا مقاومة، ورجعوا إلى المدينة بعد أن وادع في العودة عُيينة بن حصن الفزاري

عَنِ النعْمَانِ بن مُقَرِّنٍ، قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، فلما أردنا أن ننصرف قال: “يا عمر زوِّد القوم”، فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا شحا مِنْ تَمْرٍ، ما أظنه يقع من القوم موقعًا، قَالَ: “انْطَلِقْ فَزَوِّدْهُمْ”، قال: فَانْطَلَقَ بهم عمر، فأدخلهم منزله، ثم أصعدهم إلى عليه، فلما دخلنا، إِذَا فِيهَا تَمْرٌ مِثْلُ الْبَكْرِ الْأَوْرَقِ، فَقَالَ: خُذُوا فَأَخَذَ الْقَوْمُ حَاجَتَهُمْ، قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا في آخِرِ الْقَوْمِ، قَالَ: فَالْتَفَتُّ وَمَا أَفْقِدُ مَوْضِعَ تَمْرَةٍ، وَقَدْ احْتَمَلَ مِنْهُ أَرْبَعُمِائَةِ رَجُلٍ

لمّا علمت قريش أنها لن تستطيع محاربة المسلمين وحدها، وكذلك أيقنت يهود بذلك، وأن قوتهم لا تُحاكي قوة المسلمين، اتفقوا على جمع المجموع لمحاربة المسلمين وغزوهم في عقر دارهم في محاولة للقضاء على الإِسلام والمسلمين.
وقيل أن الذي بدأ بذلك وجمع الجموع هم اليهود حيث خرج وفد منهم إلى مكة فيهم سلام بن أبي الحُقيق النضري وحيي بن أخطب النضري، فدعوا قريشًا إلى حرب المسلمين ووعدوهم أن يقاتلوا معهم، ثم خرجوا من مكة إلى نجد حيث حالفوا قبيلة غطفان الكبيرة على حرب المسلمين، فكان تحالف الأحزاب بجهود من يهود بني النضير (2).
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن الفزاري، وبني مُرَّة وقائدها الحارث بن عوف بن أبي حارثة المرِّيُّ، وخرجت أشجع وقائدها مُسْعر بن رُخيلة.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة، فعمل فيه رسول الله ترغيبًا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه، فدأب فيه ودأبوا (1).
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل وهو يقول، تسلية لهم ليُهون عليهم ما هم فيه من شدة وبلاء وجوع: “اللهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْاَخِرَةْ، فاغْفِرْ لِلْأَنْصارِ والْمُهاجِرَةْ”، فيقولون مُجِيبِينَ لَهُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بايَعُوا مُحَمَّدَا … عَلَى الْجِهادِ ما بَقِينَا أَبَدَا (2)
ويَقُولُ أيضًا صلى الله عليه وسلم:
اللهُمَّ لَوْلا أَنْتَ ما اهْتَدَيْنا … وَلا تَصدَّقْنا وَلا صَلَّيْنا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنا … وَثَبِّتْ الْأَقْدامَ إِنْ لاقَيْنا
إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنا … وَإِنْ أَرادُوا فِتْنَةً أَبَيْنا
ثُمَّ يرفع صَوْتَهُ ويقول: أبينا أبينا ويمد صوته بِآخِرِهَا

وأثناء عمل المسلمين في الحفر عَرَضَتْ لَهُمْ صَخْرَةٌ حالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَفْرِ، فَقامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، وَوَضَعَ رِدَاءَهُ ناحِيَةَ الْخَنْدَقِ، وَقالَ: “تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”، فَنَدَرَ ثُلُثُ الْحَجَرِ، وَسَلْمانُ الْفارِسِيُّ قائِمٌ يَنْظُرُ فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بَرْقَةٌ، ثُمَّ ضَرَبَ الثّانِيَةَ، وَقالَ: “تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”، فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْآخَرُ، فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ، فَرَآها سَلْمانُ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ، وَقالَ: “تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”، فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْباقِي، وَخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ رِداءَهُ وَجَلَسَ، فقالَ سَلْمانُ: يا رَسُولَ الله رَأَيْتُكَ حِينَ ضَرَبْتَ ما تَضْرِبُ ضَرْبَةً إِلّا كانَتْ مَعَها بَرْقَةٌ؟! قالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “يا سَلْمانُ رَأَيْتَ ذَلِكَ؟ “، فَقالَ: إِي والَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يا رَسُولَ الله، قالَ: “فَإنِّي حِينَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الْأُولَى، رُفِعَتْ لِي مَدائِنُ كِسْرَى وَما حَوْلَها، وَمَدائِنُ كَثِيرَةٌ، حَتَّى رَأَيْتُها بِعَيْنَيَّ”، قالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَصْحابِهِ: يا رَسُولَ الله ادْعُ الله أَن يَفْتَحَها عَلَيْنا، وَيُغَنِّمَنا دِيَارَهُم، وَيُخَرِّبَ بِأَيْدِينا بِلادَهُمْ، فَدَعا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، “ثُمَّ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الثّانِيَةَ فَرُفِعَتْ لِي مَدائِنُ قَيصَرَ وَما حَوْلَها، حَتَّى رَأَيْتُها بِعَيْنَيَّ”، قالُوا: يا رَسُولَ الله ادْعُ الله أَنْ يَفْتَحَها عَلَينا، وَيُغَنِّمَنا دِيارَهُمْ، وَيُخَرِّبَ بِأَيْدِينا بِلادَهُمْ، فَدَعا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، “ثُمَّ ضَرَبْتُ الثّالِثَةَ، فَرُفِعَتْ لِي مَدائِنُ الْحَبَشَةِ، وَما حَوْلَها مِنْ الْقُرَى، حَتَّى رَأَيْتُها بِعَينَيَّ”، قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: “دَعُوا الْحَبَشَةَ ما وَدَعُوكُمْ، واتْرُكُوا التُّرْكَ ما تَرَكُوكُمْ” ويحكي لنا جابر رضي الله عنه معجزة عجيبة للنبي-صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف.
يقول جابر رضي الله عنه: لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خَمَصًا شَدِيدًا (1)، فانْكَفَأْتُ إلى امْرَأَتِي فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَئيءٌ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم خَمَصًا شَدِيدًا فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرابًا فِيهِ صاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنا بُهَيْمَةٌ داجِنٌ (2) فَذَبَحْتُها، وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ، فَفَرَغَتْ إلى فَراغِي (3)، وَقَطَّعْتُها في بُرْمَتِها (4)، ثُمَّ وَلَّيْتُ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقالَتْ: لا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَبِمَنْ مَعَهُ فَجِئْتُهُ فَسارَرْتُهُ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ الله ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنا وَطَحَنَّا صاعًا مِنْ شَعِيرٍ كانَ عِنْدَنا، فَتَعالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ، فَصاحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقالَ: “يا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جابِرًا سُورًا (5) فَحَيَّ هَلًا بِهَلّكُمْ (6) “، فَقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “لا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُم، وَلا تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُم حَتَّى أَجِيءَ”، فَجِئْتُ وَجاءَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقْدُمُ النّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقالَتْ: بِكَ وَبِكَ (7)، قَدْ فَعَلْتُ الَّذي قُلْتِ فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِينًا فَبَصَقَ فِيهِ وَبارَكَ ثُمَّ عَمَدَ إلى بُرْمَتِنا فَبَصَقَ وَبارَكَ، ثُمَّ قالَ: ادْعُ خابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِي، واقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ، وَلا تُنْزِلُوها، وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وانْحَرَفُوا (8) وإنَّ بُرْمَتَنا. لَتَغِطُّ كَما هِيَ وإنَّ عَجِينَنا لَيُخْبَزُ كَما هُوَ لقد جاءت هذه المعجزة للنبي-صلى الله عليه وسلم في وقتها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة- رضوان الله عليهم- كانوا في أشد الحاجة إلى الطعام حتى يستطيعوا مواصلة العمل في الحفر ثم مواجهة المشركين بعد ذلك، حيث كانوا قد أوشكوا على الهلاك من شدة الجوع وعدم وجود الطعام.
فقد لبثوا ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يذوقون ذواقًا، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يربط على بطنه حجرًا من شدة الجوع (1).
وحتى إنهم من شدة الجوع وعدم وجود شيئًا يأكلوه كانوا يأكلون الطعام المنتن الذي تغيرت رائحته ولونه.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه:كانوا يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفِّي مِنْ الشَّعِيرِ فَيُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهالَةٍ سَنِخَةٍ (2) تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَوْمِ والْقَوْمُ جِياعٌ وَهِيَ بَشِعَةٌ في الْحَلْقِ وَلَها رِيحٌ مُنْتِنٌ (3).
وظل النبي صلى الله عليه وسلم يعمل ويحمل التراب على كتفه الشريف حتى غطى التراب بطنه صلى الله عليه وسلم.
يقول الْبَراءُ رضي الله عنه: لَمّا كانَ يَوْمُ الْأَحْزابِ وَخَنْدَقَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رَأَيْتُهُ يَنْقُلُ مِنْ تُرابِ الْخَنْدَقِ حَتَّى وارَى (4) عَنِّي الْغُبارُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ وظل الصحابة رضوان الله عليهم يعملون معه صلى الله عليه وسلم وينقلون التراب على متونهم (1) وهم يرتجزون (2) بما تقدم من أشعار حتى فرغوا من حفر الخندق قبل وصول المشركين (3)، وكان ذلك في غداة باردة (4).
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء والأطفال فوضعوا في الحصون.
عَنْ عبد الله بن الزُّبَيْرِ قالَ: كُنْتُ أَنا وَعُمَرُ بن أبي سَلَمَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مَعَ النِّسْوَةِ في أُطُمِ (5) حَسّانَ فَكانَ يُطَأْطِئُ لِي مَرَّةً فَأَنْظُرُ، وَأُطَأْطِئُ لَهُ مَرَّةً فَيَنْظُرُ (6).
ثم ظهرت فلول المشركين، الذين تحزَّبوا لمحاربة الله ورسوله، والصدِّ عن سبيل الله فالتفوا حول المدينة وحاصروها من كل مكان فلما رأت يهود بني قريظة ذلك، تيقنوا أن المسلمين -بأي حالٍ- لن يفلتوا من هذه القوة الهائلة وأنهم سيُقضى عليهم لا محالة، ففكَّروا في نقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين، ومساعدة الأحزاب للقضاء عليهم.
وفعلًا نقض يهود بني قريظة العهد، وأصبحوا على استعداد لمعاونة الأحزاب على المسلمين.
ووصل الخبر للنبي صلى الله عليه وسلم وشاع بين صفوف المسلمين، فاشتد الخطب عليهم.
وكانت ديار بني قريظة في العوالي في الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مهزور، فكان موقعهم يمكنهم من إيقاع ضربة بالمسلمين من الخلف (1).
وفي ذلك يقول الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} أي: الأحزاب، {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} أي: بنو قريظة، {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} من شدة الخوف والفزع، {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] الظنون السيئة، والخوف من المشركين، وأن الله لن ينصر دينه، {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب: 11] بالخوف والجوع والقلق الذي عاشوه، فكان هذا ابتلاء واختبار للمسلمين، ليتبين الخبيث من الطيب. وحدث ما أراده الله عز وجل.
فأما المؤمنون فسُرعان ما تنبهوا وظهر إيمانهم وثقتهم بالله عز وجل، وقالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} من الابتلاء والامتحان الذي يعقبه النصر، {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
وأما المنافقون والذين في قلوبهم مرض، فقالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12].
وقالوا: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}، واستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} ففضحهم الله عز وجل، وقال: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13].
ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام رضي الله عنه إلى بني قريظة ليتأكد من صحة هذا الخبر.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزابِ: “مَنْ يَأتِينا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ “، فَقالَ الزُّبَيْرُ: أَنا، ثُمَّ قالَ: “مَنْ يَأتِينا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ “، فَقالَ الزُّبَيْرُ: أَنا، ثُمَّ قالَ: “لِكُلِّ نَبِيٍ حَوارِيُّ، وإِنَّ حَوارِيَّ الزُّبَيْرُ” (1).
وعَنْ عبد الله بن الزُّبَيرِ رضي الله عنهما، قالَ: كُنْتُ يَوْمَ الْأَحْزابِ جُعِلْتُ أَنا وَعُمَرُ بن أبي سَلَمَةَ في النِّساءِ، فَنَظَرْتُ فَإِذا أَنا بِالزُّبَيرِ عَلَى فَرَسِهِ يَخْتَلِفُ إلى بني قُرَيْظَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، فَلَمّا رَجَعْتُ، قُلْتُ: يا أَبَتِ رَأَيْتُكَ تَخْتَلِفُ، قالَ: أَوَ هَلْ رَأَيْتَنِي يَا بنيَّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قالَ: كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: “مَنْ يَأتِ بني قُرَيْظَةَ فَيَأتِينِي بِخَبَرِهِم؟ “، فانْطَلَقْتُ، فَلَمّا رَجَعْتُ جَمَعَ لِي رَسُولُ الله أَبَوَيْهِ، فَقالَ: “فِدَاكَ أبي وَأُمِّي”فذهب الزبير فوجدهم قد نقضوا العهد.
أما المشركون فقد فُجئوا بالخندق أمامهم، فوقفوا حيارى، لا يستطيعون اقتحامه.
ولكنهم حاولوا اقتحامه، فكانوا كلما حاولوا ذلك أمطرهم المسلمون بوابل من السهام فردوهم.
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قالَ: لَمَّا كانَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ وَرَجُلٌ يَتَتَرَّسُ جَعَلَ يَقُولُ بِالتُّرْسِ هَكَذا، فَوَضَعَهُ فَوْقَ أَنْفِهِ، ثُمَّ يَقُولُ (1): هَكَذا يُسَفِّلُهُ بَعْدُ (2)، قالَ: فَأَهْوَيْتُ إلى كِنانَتِي فَأَخْرَجْتُ مِنْها سَهْمًا مُدَمًّا (3) فَوَضَعْتُهُ في كَبِدِ الْقَوْسِ، فَلَمّا قالَ هَكَذا يُسَفِّلُ التُّرْسَ، رَمَيْتُ، فَما نَسِيتُ وَقْعَ الْقِدْحِ (4) عَلَى كَذا وَكَذا مِنْ التُّرْسِ، قالَ: وَسَقَطَ، فَقالَ: بِرِجْلِهِ، فَضَحِكَ نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَواجِذُهُ، لِفِعْلِ الرَّجُلِ (5).
ولم تنقطع هجمات المشركين على الخندق في محاولات شرسة لاقتحامه، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يتمكنوا من أداء صلاة العصر في أحد الأيام حتى غربت الشمس، من شدة انشغالهم في صدِّ المشركين عن الخندق.
عَنْ جابِرِ بن عبد الله رضي الله عنهما، أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطّابِ رضي الله عنه جاءَ يَوْمَ الخَنْدَقِ بَعْدَ ما غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفّارَ قُرَيْشٍ، قالَ: يا رَسُولَ الله ما كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصرَ حَتَّى كادَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، قالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: “واللهِ ما صَلَّيْتُهَا”، فَقُمْنا إلى بُطْحانَ فَتَوَضَّأَ لِلصلاةِ، وَتَوَضَّأْنا لَها، فَصلَّى الْعَصرَ بَعْدَ ما غَرَبَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ صلَّى بَعْدَها الْمَغْرِبَ (1).
فقام النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء على المشركين.
عَنْ عَلِيّ بن أبي طالب رضي الله عنه قالَ: لَمّا كانَ يَوْمُ الْأَحزابِ، قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “مَلَأَ الله بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نارًا، شَغَلُونا عَنْ الصَّلاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غابَتْ الشَّمْسُ” (2).
ثم استمر النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه على المشركين والأحزاب.
عن عبد الله بن أبي أَوْفَى رضي الله عنهما قال: دَعا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقالَ: “اللهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتابِ، سَرِيعَ الْحِسابِ، اللهمَّ اهْزِمْ الْأَحْزابَ، اللهمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ”فاستجاب الله عز وجل دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم، فأرسل عليهم ريحًا شديدًا فخلعت خيامهم، وأكفأت قدورهم، وأطفأت نيرانهم، وأرسل الملائكة فزلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف.
وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)} [الأحزاب: 9].
فلم تتحمل الأحزاب جنود الله عز وجل، ولم يستطيعوا مواجهتها، فأسرعوا بالتجهز للرحيل.
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: لَقَد رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لَيلَةَ الْأَحْزابِ وَأَخَذَتْنا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ (1)، فَقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “أَلا رَجُلٌ يَأتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ الله مَعِي يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ “، فَسَكَتْنا فَلَم يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قالَ: “أَلا رَجُلٌ يَأتِينا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ الله مَعِي يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ “، فَسَكَتْنا فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قالَ: “ألا رَجُلٌ يَأتِينا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ الله مَعِي يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ “، فَسَكَتْنا فَلَم يُجِبهُ أَحَدٌ، فَقالَ: “قُمْ يا حُذَيْفَةُ فَأتِنا بِخَبَرِ الْقَوْمِ”، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ، قالَ: “اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلا تَذْعَرْهُم عَلَيَّ” (2)، فَلَمّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّما أَمْشِي في حَمَّامٍ (3) حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَرَأَيْتُ أَبا سُفْيانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ (4)، فَوَضَعْتُ سَهْمًا في كَبِدِ الْقَوْسِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرتُ قَوْلَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: “وَلا تَذْعَرْهُم عَلَيَّ”، وَلَوْ رَمَيتُهُ لَأَصَبْتُهُ، فَرَجَعْتُ وَأَنا أَمْشِي في مِثْلِ الْحَمّامِ، فَلَمّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَفَرَغْتُ، قُرِرْتُ (1)، فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ فَضْلِ عَباءَةٍ كانَتْ عَلَيهِ يُصَلِّي فِيها، فَلَم أَزَلْ نائِمًا حَتَّى أَصْبَحْتُ، فَلَمّا أَصْبَحْتُ قالَ: “قُمْ يا نَوْمانُ! ” (2) وفي رواية: قال حذيفة: يا رسول الله تفرق الناس عن أبي سفيان، فلم يبق إلا عصبة يوقد النار، وقد صبَّ الله عليهم من البرد مثل الذي صبَّ علينا، ولكنا نرجوا من الله ما لا يرجون (3).
وبذلك تفرقت جموع الأحزاب وهزمهم الله عز وجل وحده: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} [الأحزاب: 25].
وانفك الحصار الذي دام أربعًا وعشرين ليلة (4)، بفضلٍ من الله-عز وجل.
ولذا كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “لا إِلَهَ إِلّا الله وَحْدَهُ أَعَزَّ جُنْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَغَلَبَ الْأَحْزابَ وَحْدَهُ، فَلا شَيءَ بَعْدَهُ”وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لما أَجْلَى الله الْأَحْزابَ: “الْآنَ نَغْزُوهُم، وَلا يَغْزُونَنا نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ”

كان شرب الخمر عادة أساسية عند رجالات العرب في الجاهلية، وكان يصعب على الواحد منهم ترك ذلك الأمر.
فلما جاء الإسلام، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم بالتشريع من عند العليم الخبير، لم يُحرم الخمر مرة واحدة بل كان ذلك تدريجيًا، تيسيرًا من الله تعالى على هؤلاء الذين تأصلت فيهم هذه العادة.
فأنزل الله تعالى أولاً: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
فشربه بعض الناس وتركه البعض، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فكان المنادي إذا أقام الصلاة قال: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، فقَالَ عُمَرُ: اللهمَّ بَيِّنْ لَنَا في الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91] فقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: انْتَهَيْنَا، انْتَهَيْنَا (1).
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ، فَقَالُوا: تَعَالَ نُطْعِمْكَ وَنَسْقِكَ خَمْرًا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ في حَشٍّ -الْحَشُّ: الْبُسْتَانُ- فَإِذَا رَأْسُ جَزُورٍ مَشْوِيٌّ عِنْدَهُمْ، وَزِقٌّ مِنْ خَمْرٍ (2)، قَالَ: فَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ مَعَهُمْ، قَالَ: فَذَكَرْتُ الْأَنْصارَ وَالْمُهَاجِرِينَ عِنْدَهُمْ، فَقُلْتُ: الْمُهَاجِرُونَ خَيْرٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَخَذَ رَجُلٌ أَحَدَ لَحْيَيْ الرَّأْسِ (1) فَضَرَبَنِي بِهِ فَجَرَحَ بِأَنْفِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَنْزَلَ الله عز وجل فِيَّ شَأْنَ الْخَمْرِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (2).
وعَنْ أَنَس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ في مَنْزِلِ أبي طَلْحَةَ، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى، فَقَالَ أبو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْتُ، قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَقُلْتُ: هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ لِي: اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا، قَالَ: فَجَرَتْ في سِكَكِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: وَكَانَتْ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ (3)، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: قُتِلَ قَوْمٌ وَهْيَ في بُطُونِهِمْ، قَالَ: فَأَنْزَلَ الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}

لَمّا رَجَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الْخَنْدَقِ ووَضَعَ السِّلاحَ واغْتَسَلَ، أَتاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام وَهُوَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنْ الْغُبارِ فَقالَ: قَدْ وَضَعْتَ السِّلاحَ؟ واللهِ ما وَضَعْتُهُ اخْرُجْ إِلَيهِم، قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “فأَيْنَ”، فَأَشارَ إلى بني قُرَيْظَةَ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم (2).
وسارع في الخروج، وحث الصحابة على سرعة اللحاق به، حتى قالَ لهم صلى الله عليه وسلم: “لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلّا في بني قُرَيْظَةَ”، فَأَدْرَكَ بَعْضُهُم الْعَصرَ في الطَّرِيقِ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَها، وَقالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُعَنِّفْ واحِدًا مِنْهُمْ (3). 

خروج جبريل عليه السلام في كوكبة من الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة:

عَنْ أَنَس بن مالك رضي الله عنه قالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إلى الْغُبارِ سَاطِعًا في زُقاقِ بني غَنْمٍ مَوْكِبَ جِبرِيلَ صَلَواتُ الله عَلَيهِ حِينَ سارَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قُرَيْظَةَ (1).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة لِحَسَّانَ بن ثابت: “اهْجُ المشركين فإنَ جِبْرِيلَ مَعَكَ” (2).
ووصل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى بني قريظة، وسمع بنو قريظة بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فتحصنوا في حصونهم، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، خمسًا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وقد كان حُييُّ بن أخطب النضري دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان (3).
فلما أيقنوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم أعلنوا استسلامهم فحكّم النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه ورضي أهلُ قريظة بحكمه.
عن أبي سعيد الْخُدرِيِّ رضي الله عنه قالَ: نَزَلَ أَهْلُ قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بن مُعاذٍ، فأَرْسَلَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى سَعْدٍ، فأَتَى عَلَى حِمَار، فَلَمّا دَنا مِنْ الْمَسجِدِ، قالَ لِلْأَنْصارِ: “قُومُوا إلى سَيِّدِكُمْ -أَوْ خَيرِكُم-” فقالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هَؤُلاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ”، فقالَ: تَقْتُلُ مُقاتِلَتَهُمْ، وَتَسْبِي ذُرِّاريهُمْ، قالَ: “قَضَيْتَ بِحُكْمِ الله”، وَرُبَّما قالَ: “بِحُكْمِ الْمَلِكِ”وفي رواية قَالَ سعد: وَأَنْ تُقْسَمَ أَمْوالُهُمْ (1).

‌‌النبي صلى الله عليه وسلم يميز بين الصغار والبالغين استعدادًا لتنفيذ حكم سعد رضي الله عنه -:
عن عطية الْقُرَظِيِّ قالَ: كُنْتُ مِنْ سَبْيِ بني قُرَيْظَةَ، فَكانُوا يَنْظُرُونَ فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعْرَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ لَمْ يُقْتَلْ، فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبتْ.
وفي لفظ: فَكَشَفُوا عانَتِي فَوَجَدُوها لَمْ تَنْبُتْ، فَجَعَلُونِي مِنْ السَّبْيِ (2).

‌‌قال ابن إسحاق:
ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في دار بنت الحارث، امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة، التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يُخرج بهم إليه أرسالًا (3) وفيهم عدو الله حُييُّ بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر لهم يقول: كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يُذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالًا: يا كعب، ما تراه يُصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ} أي: عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب المسلمين، {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} أي: من حصونهم، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)} [الأحزاب: 26، 27].

‌‌المرأة الوحيدة التي قتلت من بني قريظة:
عَنْ عائِشَةَ رضي الله عنها قالَتْ: لَمْ تُقْتَلْ مِنْ نِسائِهِمْ -تَعْنِي بني قُرَيْظَةَ- إِلّا امْرَأَةٌ، إِنَّها لَعِنْدِي تُحَدِّثُ: تَضْحَكُ ظَهْرًا وَبَطْنًا، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْتُلُ رِجالَهُمْ بِالسُّيُوفِ، إِذْ هَتَفَ هاتِفٌ بِاسْمِها: أَيْنَ فُلانَةُ؟ قالَتْ: أَنا، قُلْتُ: وَما شَأْنُكِ؟ قالَتْ: حَدَثٌ أَحْدَثْتُهُ، قالَتْ: فانْطَلَقَ بِها، فَضُرِبَتْ عُنُقُها، فَما أَنْسَى عَجَبًا مِنْها: أَنَّها تَضْحَكُ ظَهْرًا وَبَطْنًا وَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّها تُقْتَلُ (1).

‌‌قال ابن هشام:
وهي التي طرحت الرَّحى على خلاد بن سويد فقتلته (2).
فكان هذا آخر عهد لليهود بالمدينة، وآخرهم بني قريظة الذين نالوا جزاء خيانتهم العظمى، ونقضهم العهد الذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق الله تعالى إذ يقول: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة: 100].
ثم أسلم بعض بني قريظة وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فبقوا بالمدينة عَنْ عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنه قالَ: حارَبَتْ النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ، فَأَجْلَى بني النَّضِيرِ، وَأَقَرَّ قُرَيْظَةَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ، حَتَّى حارَبَتْ قُرَيْظَةُ، فَقَتَلَ رِجالَهُمْ، وَقَسَمَ نِساءَهُمْ، وَأَوْلادَهُم، وَأَمْوالَهُم بَينَ الْمُسْلِمِينَ، إِلّا بَعْضَهُم لَحِقُوا بِالنَّبِي صلى الله عليه وسلم فَآمَنَهُم وَأَسْلَمُوا، وَأَجْلَى يَهُودَ الْمَدِينَةِ كُلَّهُم بني قَيْنُقاعَ، وَهُمْ رَهْطُ عبد الله بن سَلامٍ وَيَهُودَ بني حارِثَةَ وَكُلَّ يَهُودِ الْمَدِينَةِ

وكانت عند زيد بن حارثة رضي الله عنه قبل أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم.
وزيد بن حارثة بن شراحيل رضي الله عنه كان مولى للنبي صلى الله عليه وسلم أهدته إليه خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضي الله عنها.
وكان يدعى زَيْدَ بن مُحَمَّدٍ، حيث كان قد تبناه النبي صلى الله عليه وسلم فكان ينسب إليه، حَتَّى نَزَلَت: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] (2).
فبنزول هذه الآية تم تحريم التبني، وأصبح كلٌ يُنسبُ إلى أبيه الذي هو من صلبه، فأصبح يقال زيد بن حارثة.
ولكن قاعدة التبني كانت متأصلة في نفوس العرب، ليس من السهل محوها، فكأن الله عز وجل أراد حدوث شيء عملي يمحو هذا تمامًا من نفوسهم، فكان تزويج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش التي كانت زوجة لرعيِّه زيد بن حارتْة رضي الله عنه.
وقد ذكر الله عز وجل ذلك في كتابه العزيز فقال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} وهو زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالإِسلام، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنعم النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالعتق من الرق.
{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} زينب رضي الله عنها، حيث جَاءَ زَيْدُ بن حَارِثَةَ يَشْكُو للنَّبِيِ صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “اتَّقِ الله وَأَمْسِكْ عَلَيكَ زَوْجَكَ” (1).
وكان الله عز وجل قد أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أنها ستكون زوجته، ولذلك قال الله تعالى له: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} أي: لا تخفي ما أطلعك الله عليه من أنها ستكون زوجتك، {وَتَخْشَى النَّاسَ} من أن يقولوا: طلق محمد زوجة ابنه ليتزوجها، {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}.
ثم يقول الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الوطر: الحاجة، أي: فلما فرغ زيدٌ منها وفارقها {زَوَّجْنَاكَهَا} فكان زواجها رضي الله عنها من النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من الله عز وجل، ولذلك كَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى زوجات النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وتَقُولُ لهن: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي الله تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ (2).
عَنِ أَنَس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِزَيْدٍ: “اذْهَبْ فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ”، قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَاهَا قَالَ وَهِيَ تُخَمِّرُ عَجِينَهَا، قال: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا عَظُمَتْ في صَدْرِي حَتَّى مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَيهَا؛ أَنَّ رَسُولَ الله ذَكَرَهَا، فَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِي، وَنكَصْتُ عَلَى عَقِبَيَّ فَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ أَرْسَلَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُكِ، قَالَت: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُؤَامِرَ رَبِّي، فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ وَجَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ عَلَيهَا بِغَيرِ إِذْنٍ (1).

‌‌وليمةْ عُرس زينب رضي الله عنها -:
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أَوْلَمَ عَلَى امرأة -أو على شَيءٍ مِنْ نِسَائِهِ- مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ فإنه ذبح شَاةً (2).
وفي لفظ لمسلم: مَا أَوْلَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أكثر أو أفضل ممَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ، أطعمهم خبزًا ولحمًا حتى تركوه.
وعَنْ أَنَسِ أيضًا قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ بِأَهْلِهِ -زينب رضي الله عنها قَالَ: فَصَنَعَتْ أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ حَيْسًا (3)، فَجَعَلَتْهُ في تَوْرٍ (4) فَقَالَتْ: يَا أَنَسُ اذْهَبْ بِهَذَا إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْ بَعَثَتْ بِهَذَا إِلَيكَ أُمِّي، وَهِيَ تُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَتَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَكَ مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ: “ضَعْهُ”، ثُمَّ قَالَ: “اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا وَمَنْ لَقِيتَ” وَسَمَّى رِجَالاً، قَالَ: فَدَعَوْتُ مَنْ سَمَّى وَمَنْ لَقِيتُ. وقيل لِأَنَسٍ: عَدَدَكَمْ كَانُوا؟ قَالَ: زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ. وَقَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “يَا أَنَسُ هَاتِ التَّوْرَ”، قَالَ: فَدَخَلُوا حَتَّى امْتَلَأَتْ الصُّفَّةُ وَالْحُجْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “لِيَتَحَلَّقْ عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ وَلْيَأْكُلْ كُل إِنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ”، قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبعُوا، قَالَ: فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ، حَتَّى أَكَلُوا كُلُّهُمْ، فَقَالَ لِي: “يَاَ أَنَسُ ارْفَعْ”، قَالَ: فَرَفَعْتُ فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضعْتُ كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْتُ.

قَالَ أنس رضي الله عنه: فَرَفَعْتُ -أي: الطعام- فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضَعْتُ كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْتُ، قَالَ: وَجَلَسَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ يَتَحَدَّثُونَ في بَيْتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ وَزَوْجَتُهُ مُوَلِّيَةٌ وَجْهَهَا إلى الْحَائِطِ فَثَقُلُوا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ عَلَى نِسَائِهِ ثُمَّ رَجَعَ فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ رَجَعَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ثَقُلُوا عَلَيْهِ، قَالَ: فَابْتَدَرُوا الْبَابَ فَخَرَجُوا كُلُّهُمْ، وَجَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَرْخَى السِّتْرَ وَدَخَلَ وَأَنَا جَالِسٌ في الْحُجْرَةِ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى خَرَجَ عَلَيَّ، وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَقَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ}

عَنْ عائِشَةَ رضي الله عنها قالَتْ: أُصيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، رَماهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقالُ لَهُ: حِبَّانُ بن الْعَرِقَةِ، وَهُوَ حِبَّانُ بن قَيْسٍ، مِنْ بني مَعِيصِ بن عامِرِ بن لُؤَيّ، رَماهُ في الْأَكْحَلِ (2) فَضَرَبَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم خَيمَةً في الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَقال سعد: اللهمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أُجاهِدَهُمْ فِيكَ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ صلى الله عليه وسلم وَأَخْرَجُوهُ، اللهمَّ فَإِنِّي أَظنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ، فَإِنْ كانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيءٌ فأَبْقِنِي لَهُ حَتَّى أُجاهِدَهُمْ فِيكَ، وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ فافْجُرْها واجْعَلْ مَوْتَتِي فِيها، فانْفَجَرَتْ مِنْ لَبَّتِهِ (3) فَلَم يَرُعْهُمْ- وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بني غِفارٍ – إِلّا الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ، فَقالُوا: يا أهْلَ الْخَيْمَةِ ما هَذا الَّذِي يَأْتِينا مِنْ قِبَلِكُمْ؟ فَإِذا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا، فَما زال يسيل حتى ماتَ فلَمَّا حُمِلَتْ جَنَازَةُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا أَخَفَّ جَنَازَتَهُ، وَذَلِكَ لِحُكْمِهِ في بني قُرَيْظَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: “إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَحْمِلُهُ” (1).
وقال النَّبِي صلى الله عليه وسلم: “اهْتَزَّ عَرْشُ الرحمن لِمَوْتِ سَعْدِ بن مُعَاذٍ” (2).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: أُهْدِيَتْ لِلنَّبِي صلى الله عليه وسلم حُلَّةُ حَرِيرٍ فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَمَسُّونَهَا وَيَعْجَبُونَ مِنْ لِينِهَا، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: “أَتَعْجَبُونَ مِنْ لِينِ هَذِهِ؟ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ خَيرٌ مِنْهَا أَوْ أَلْيَنُ”

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن جُنافة، إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، فكانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تُوفي عنها وهي ملكه

وقدمتْ أشجع على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الخندق، وهم مائة- على- رأسهم مسعود بن رخيلة، فنزلوا شعب سَلْع، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بأحمال التمر، فقالوا: يا محمَّد لا نعلم أحدًا من قومنا أقرب دارًا منك منَّا، ولا أقلَّ عددًا، وقد ضقنا بحربك وبحرب قومك، فجئنا نوادعك، فوادعهم، ويقال: بل قدمت أشجع بعد ما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني قريظة وهم سبعمائة، فوادعهم ثم أسلموا بعد ذلك

عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سَابَقَ بَينَ الْخَيلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ (2) مِنْ الْحَفْيَاءِ إلى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ (3)، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إلى مَسْجِدِ بني زُرَيْقٍ (4) وَكان ابْنُ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ بِهَا