أحداث السنة الرابعة من بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم

Events of the fourth year of the mission of the Messenger of Allah, Muhammad (peace and blessings of Allah be upon him)

بدأ بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِالَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة الشعراء: 214 – 220]
ذكر بعضهم: أنه لما نزل عليه – صلى الله عليه وسلم – قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} اشتد ذلك على النبي – صلى الله عليه وسلم – وضاق به ذرعًا، فمكث شهراً أو نحوه جالسًا في بيته حتى ظنّ عماته أنه شاكٍ، فدخلن عليه عائدات فقال – صلى الله عليه وسلم -: “ما اشتكيت شيئًا، لكن الله أمرني بقوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فأريد أن أجمع بني عبد المطلب لأدعوهم إلى الله تعالى”، قلن: فادعهم ولا تجعل عبد العزى فيهم -يعنين عمه أبا لهب- فإنه غير مجيبك إلى ما تدعو إليه، وخرجن من عنده – صلى الله عليه وسلم -.
قال: فلما أصبح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعث إلى بني عبد المطلب فحضروا وكان فيهم أبو لهب، فلما أخبرهم. بما أنزل الله عليه أسمعه ما يكره؛ قال: تبًّا لك ألهذا جمعتنا؟ وأخذ حجرًا ليرميه به وقال له: ما رأيت أحدًا قط جاء بني أبيه وقومه بأشر ما جئتهم به. فسكت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يتكلم في ذلك المجلس.
ثم مكث – صلى الله عليه وسلم – أيامًا ونزل عليه جبريل وأمره بإمضاء أمر الله تعالى، فجمعهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثانيًا وخطبهم ثم قال لهم: “إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبتُ الناس جميعًا ما كذبتُكم، ولو غررت الناس جميعًا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصةً وإلى الناس كافة، والله لتموتنَّ كما تنامون، ولتبعثنَّ كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا، وإنها لجنةٌ أبدا أو لنارٌ أبدا، والله يا بني عبد المطلب ما أعلم شابًا جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة”. فتكلم القوم كلامًا لينًا غير أبي لهب، فإنه قال: يا بني عبد المطلب، هذه والله السَّوْأَةُ ، خذوا على يديه قبل أن يأخذ على يديه غيركم، فإن أسلمتموه حينئذ ذللتم، وإن منعتموه قتلتم. فقالت له أخته صفية عمَّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رضي الله تعالى عنها: أي أخي أيحسن بك خذلان ابن أخيك؟ فوالله ما زال العلماء يخبرون أنه يخرج من ضِئْضِئ عبد المطلب نبي؛ فهو هو. قال: هذا والله الباطل والأماني وكلام النساء في الحجال، إذا قامت بطون قريش وقامت معها العرب فما قوتنا بهم؟ فوالله ما نحن عندهم إلا أكَلَةُ رأسٍ، فقال أبو طالب: والله لنمنعه ما بقينا.

عن علي -رضي الله عنه– قال: جمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو دعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بني عبد المطلب، فيهم رهط كلهم يأكل الجذعة، ويشرب الفرق، فصنع لهم مدًا من طعام فأكلوا حتى شبعوا، وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس، ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا، وبقي الشراب كأنه لم يمس أو لم يشرب، فقال – صلى الله عليه وسلم -: يا بني عبد المطلب إني بعثت لكم خاصة وإلى الناس بعامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون (أخي وصاحبي). فلم يقم إليه أحد. فقمت إليه وكنت أصغر القوم. فقال: اجلس- ثلاث مرات. كل ذلك أقوم إليه فيقول لي: اجلس. حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي.

 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} نادى رسول الله في قريش بطنًا بطنا، فقال: أرأيتم لو قلت لكم إِن خيلًا بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبًا قط. قال: فإِني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهبتبَّا لك، ألهذا جمعتنا؟فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}سورة المسد (1).
وفي رواية للإِمام مسلم أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – صعد الصفا 📍 فنادى: “يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد المطلب، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت رسول الله، سليني بما شئت، لا أغني عنك من الله شيئًا”.
وقد بدأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – النذارة بما كانوا يعلمونه في شخصه الكريم، ولا ينكرونه، بدأ بقضيّة لا يختلفون فيها، وهي صدقه – صلى الله عليه وسلم -، فأجابوه: (ما جرّبنا عليك كذبًا)، وهم يعلمون استحالة أو استبعاد الخبر، فمكة آمنة 📍، وكل العرب تدين لحرمة مكة وقدسيتها، فأنّى أن تُغير عليها خيلًا، ومع ذلك كان لديهم استعداد لقبول هذا الخبر من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّهم لم يجربوا عليه كذبًا. فأعلن إِنذاره لهم بقضيّة كبرى وحقيقة عظمى، أنذرهم يوم البعث والجزاء، أنذرهم عذاب الله الجبّار لمن كذّب به واستكبر.
قال ابن عباس: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ورهطك منهم المخلصين. خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه قالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد. فاجتمعوا إليه. قال: أريتم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبًا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال أبو لهب: تبًا لك أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام.
فنزلت هذه السورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}سورة المسد (1-5)

قال سعيد بن جبير: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟
قال: نعم والله. إن كان ليضربون أحدهم ويجيعونه، ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسًا من شدة الضُرّ الذي به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهان من دون الله؟ فيقول: نعم. افتداءً منهم بما يبلغون من جهدهم. 

*وثوب كل قبيلة على مسلميها بالأذى
قال ابن إسحاق: ثم إن قريشًا تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول – صلى الله عليه وسلم – الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين، يعذبونهم، ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله – صلى الله عليه وسلم – منهم بعمه أبي طالب. 
وقال: إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم، ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة 📍 إذا اشتد الحر، فمنهم من يُفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه، ومنهم من يصلّب لهم ويعصمه الله منهم. 
 عن الزهري قال: لما كثر المسلمون وظهر الإيمان، وتُحدث به، ثار ناس كثير من المشركين من كفار قريش، على من آمن من قبائلهم، فعذبوهم وسجنوهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم

قال ابن إسحاق: وكان أبو جهل الفاسق الذي يغري بهم في رجال من قريش، إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وخزاه، وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك لنسفهن حلمك، ولنفليّن رأيك، ولنضعن شرفك، وإن كان تاجرًا قال: والله لنكسدنّ تجارتك، ولنهلكنّ مالك، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به. 

*نماذج مما تعرض له المسلمين من الأذى

تعذيب عثمان بن عفان (رضي الله عنه)
 عن محمد بن إبراهيم بن حارث التيمي قال: لما أسلم عثمان بن عفان أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطًا وقال: أترغب عن ملة آبائك إلى دين مُحدث؟ والله لا أُحلك أبدًا حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين، فقال عثمان: والله لا أدعه أبدًا ولا أفارقه، فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه. 

تعذيب الزبير بن العوام (رضي الله عنه)
 عن عروة بن الزبير  قال: وكان عم الزبير يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار ويقول: ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبدًا. 

تعذيب مصعب بن عمير (رضي الله عنه)
 عن محمد العبدري  عن إسلام مصعب  قال: فكان يختلف إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سرًا فبصر به عثمان بن طلحة يصلي فأخرّ أمه وقومه فأخذوه فحبسوه فلم يزل محبوسًا حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى ثم رجع مع المسلمين حين رجعوا، فرجع متغير الحال قد حَرَج، فكفت أمه عنه من العذل. 

تعذيب أبي فكيهة (رضي الله عنه)
أسلم بمكة، فكان يعذب ليرجع عن دينه فيأبى، وكان قوم من بني عبد الدار يخرجونه نصف النهار في حر شديد في قيد من حديد، ويلبس ثيابًا ويبطح في الرمضاء، ثم يؤتى بالصخرة فتوضع على ظهره حتى لا يعقل، فلم يزل كذلك حتى هاجر أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى أرض الحبشة فخرج معهم في الهجرة الثانية.

تعذيب خالد بن سعيد (رضي الله عنه)

 عن عمرو بن شعيب قال: كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص ثالثًا أو رابعًا، وكان ذلك ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدعو سرًا، وكان يلزم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويصلي في نواحي مكة خاليًا، فبلغ ذلك أبا أحيحة فدعاه فكلمه أن يدع ما هو عليه، فقال خالد: لا أدع دين محمد حتى أموت عليه. فضربه أبو أحيحة بقراعة في يده حتى كسرها على رأسه، ثم أمر به إلى الحبس، وضيق عليه وأجاعه وأعطشه, حتى لقد مكث في حر مكة ثلاثًا ما يذوق ماءً، فرأى خالد فرجةً فخرج فتغيب عن أبيه في نواحي مكة حتى حضر خروج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة في الهجرة الثانية، فلهو أول من خرج إليها. 

ما لقيه سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) من أمه
روى مسلم بسنده عن سعد أنه نزلت فيه آيات من القرآن قال: حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك، وأنا آمرك بهذا. قال: مكثت ثلاثًا حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها، فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله -عَزَّ وجَلَّ- في القرآن هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} سورة لقمان (14-15)

ما لقيه طلحة بن عبيد الله (رضي الله عنه) من أمه
عن مسعود بن حراش قال: بينا أنا أطوف بين الصفا والمروة إذا أناس كثير يتبعون إنسانا فتى شابًا موثقًا يده إلى عنقه قلت ما شأنه؟ قالوا هذا طلحة بن عبيد الله صبأ، وامرأة وراءه تذمه وتسبه قالوا هذه أمه الصعبة بنت الحضرمي. قال طلحة وأخبرني عيسى بن طلحة وغيره أن عثمان بن عبيد الله أخا طلحة بن عبيد الله قرن طلحة مع أبي بكر ليحبسه عن الصلاة ويرده عن دينه وحرز يده مع يد أبى بكر فلم يرعهم إلا وهو يصلى مع أبى بكر. 

تعذيب سعيد بن زيد (رضي الله عنه)
قال سعيد بن زيد: لقد رأيتني وإن عمر لموثقي على الإسلام. وأخته. 

تعذيب آل ياسر (رضوان الله عليهم)
قال ابن إسحاق، قال فحدثني رجال من آل عمار بن ياسر أن سمية أم عمار عذبها هذا الحي من بني المغيرة على الإسلام وهي تأبى حتى قتلوها وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يمر بعمار وأمه وأبيه وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة فيقول: (صبرًا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة). 
روى البيهقي بسنده عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: ما وراءك. قال شر يا رسول الله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال: كيف تجد قلبك قال: مطمئن بالإيمان قال: إن عادوا فعد. 
روي بسنده عن مجاهد قال: أول شهيد استشهد في الإسلام سمية أم عمار أتاها أبو جهل فطعنها بحربة في قلبها. وكانت عجوزا كبيرة ضعيفة،

فلما قتل أبو جهل يوم بدر قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لعمار بن ياسر: (قد قتل الله قاتل أمك). 
روى البيهقي بسنده عن عباس في قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} سورة النحل (106) قال: أخبر الله سبحانه أنه من كفر بعد إيمانه، فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم، فأما من أكره فتكلم بلسانه، وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه، فلا حرج عليه، إن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم. 
روى ابن ماجه بسنده عن هانئ بن هانئ قال: دخل عمار على عليٍّ، فقال: مرحبًا بالطيب المطيب، سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (ملئ عمار إيمانًا إلى مشاشه). 
روى ابن سعد بسنده عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر في قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}سورة النحل (106)، قال: ذلك عمار بن ياسر. 
روى ابن سعد بسنده عن محمد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لقي عمارًا وهو يبكي، فجعل يمسح عن عينيه وهو يقول: (أخذك الكفار فغطوك في الماء فقلت كذا وكذا، فإن عادوا فقل ذاك لهم).
روى ابن سعد بسنده عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير قال: نزل في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله قوله: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}سورة العنكبوت(2)
روى ابن سعد بسنده عن عروة بن الزبير قال: كان عمار بن ياسر من المستضعفين الذين يعذبون بمكة ليرجع عن دينه.

أذى قريش [للعبيد]

تعذيب بلال بن رباح في بطن مكة
روى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله قال: أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد. فأما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذتهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فأعطوه الولدان، وأخذوا يطوفون به شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد.

عتقاء أبي بكر (رضي الله عنه)
قال ابن إسحاق بعد أن ذكر تعذيب بلال وإعتاق أبي بكر، -رضي الله عنه-، له: ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب، بلال سابعهم: عامر بن فهيرة، شهد بدرًا وأحدًا وقتل يوم بئر معونة شهيدا، وأم عبيس وزنيرة، أصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذبوا وبيت الله، ما تضر اللات والعزى، وما تنفعان، فرد الله بصرها. وأعتق النهدية وبنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار، فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدا، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: حل يا أم فلان، فقالت: حل أنت أفسدتهما فأعتقهما، قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا، قال: قد أخذتهما وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها، قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال: ذلك إن شئتما.

ومر بجارية بني مؤمل -حي من بني عدي بن كعب- وكانت مسلمة، وكان عمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك، وهو يضربها حتى إذا كل قال: إني أعتذر إليك، إني لم أتركك إلا كلالة, فتقول: كذلك فعل الله بك، فابتاعها أبو بكر فأعتقها. (1)
روى ابن إسحاق بسنده عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن بعض أهله قال: قال أبو قحافة لأبي بكر: يا بني، إني أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالًا جلدًا، يمنعونك ويقومون دونك، قال: فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: يا أبت، إني إنما أريد ما أريد لله، قال: فيتحدث أنه ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه، وفيما قال له أبوه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} إلى قوله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى}.
روي بسنده عن جابر بن عبد الله، -رضي الله عنهما-، قال: كان عمر يقول: أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا، يعني بلالًا. (2)

تعذيب خباب بن الأرت (رضي الله عنه)
قال خباب: أتيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة شديدة فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا. فقعد وهو محمر وجهه فقال: (إن من كان قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله -عَزَّ وجَلَّ-، والذئب على غنمه. (3)
عن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: كنت قينًا في الجاهلية، وكان لي على

العاص بن وائل السهمي دين، فأتيته أتقاضاه- وفي رواية قال: فعملت للعاص بن وائل سيفًا، فجئته أتقاضاه فقال: لا أعطيك، حتى تكفر بمحمد، فقلت: والله لا أكفر حتى يميتك الله ثم تبعث، قال: وإني لميت ثم مبعوث؟ قلت: بلى، قال: دعني حتى أموت وأبعث، فسأوتى مالًا وولدًا فأقضيك. فنزلت: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} (1)
قال خباب بن الأرت: لم يكن أحد إلا أعطى ما سألوا، قوم عذبهم المشركون إلا خبابًا، كانوا يضجعونه على الرضف فلم يستعتبوا منه شيئا (2)
عن أبي ليلى الكندي قال: جاء خباب بن الأرت إلى عمر، فقال: أدنه فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار بن ياسر. فجعل خباب يريه آثارًا في ظهره مما عذبه المشركون. (3)
قال طارق بن شهاب: كان خباب بن الأرت من المهاجرين الأولين، وكان ممّن يعذب في الله. (4)

أول سيف سل في الإسلام
روى البيهقي بسنده عروة عن أبيه قال: (أول من سل سيفه في الله الزبير نفخة نفخها الشيطان: أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو بأعلى مكة فسل الزبير سيفه ثم خرج يشق الناس حتى أتى النبي وهو بأعلى مكة قال ما لك يا زبير؟! قال: أخبرت أنك أخذت قال فصلى عليه ودعا له ولسيفه). (5)
حدثا يعقوب بن حميد، والزبير بن أبي بكر، قالا: ثنا سليمان ابن حرب، عن حماد

بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد ابن المسيب قال: أول من سل سيفًا في الله -عَزَّ وجَلَّ- الزبير بن العوام -رضي الله عنه-، كان قائلا بشعب المطابخ إذ سمع نغمة: قتل محمد، فخرج متجردًا سيفه صلتا، فلقي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما لك يا زبير؟) قال -رضي الله عنه-: لا، إلا أني سمعت نغمة أنك قتلت. قال – صلى الله عليه وسلم -: (فماذا كنت صانعًا؟) قال: استعرض أهل مكة، فدعى له النبي – صلى الله عليه وسلم – بخير. قال سعيد: فأرجو أن لا يضيع الله -تعالى- دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – للزبير -رضي الله عنه-. (1)
عن سعيد بن المسيب قال: (إن أول من سل سيفًا في الله الزبير بن العوام، بينا هو ذات يوم قائل إذ سمع نغمةً: قتل رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فخرج متجردًا بالسيف صلتًا، فلقيه النبي – صلى الله عليه وسلم – كنه كنه، فقال: ما لك يا زبير؟ قال: سمعت أنك قتلت، قال: فما أردت أن تصنع؟ قال: أردت والله أستعرض أهل مكة! فدعا له النبي – صلى الله عليه وسلم – بخير، وفي ذلك يقول الأسدي:
هذاك أول سيف سل في غضب … لله سيف الزبير المنتضى أنفا
حمية سبقت من فضل نجدته … قد يحبس النجدات المحبس الأزفا

دفع الله الأذى عن جماعة من المسلمين
قال ابن إسحاق: وحدثني الزبير بن عكاشة بن عبد الله بن أبي أحمد، أنه حدث، أن رجالًا من بني مخزوم مشوا إلى هشام بن الوليد -حين أسلم أخوه الوليد بن الوليد بن المغيرة- وكانوا قد أجمعوا على أن يأخذوا فتيةً منهم كانوا قد أسلموا؛ منهم سلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، قال: فقالوا له وخشوا شره: إنا قد أردنا أن نعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذي أحدثوا، فإنا نأمن بذلك في غيرهم، قال: هذا فعليكم به فعاتبوه، وإياكم ونفسه، ثم قال:
ألا لا يقتلن أخي عييش … فيبقي بيننا أبدًا تلاحياحذروا على نفسه، فأقسم بالله لئن قتلتموه لأقتلن أشرفكم رجلًا، قال: فقالوا: اللَّهم العنه، من يغرر بهذا الخبيث، فوالله لو أصيب في أيدينا لقتل أشرفنا رجلًا، فتركوه ونزعوا عنه، قال: وكان ذلك مما دفع الله به عنهم.

حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو نعيم ثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران السلمي عن ابن عباس قال قالت قريش للنبي – صلى الله عليه وسلم – ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبًا، فإن أصبح لنا ذهبًا اتبعناك فدعا ربه -عَزَّ وجَلَّ-، فأتاه جبريل -عليه السلام-، فقال: إن ربك يقرئك السلام ويقول لك إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر منهم عذبته عذابًا لم أعذبه أحد من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة قال: (بل باب التوبة والرحمة). (2)
قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} سورة الإسراء: 59
روى الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس، قال: سأل أهل مكة رسول الله -صلي عليه وسلم – أن يجعل لهم الصفا ذهبًا وأن ينحي عنهم الجبال فيزدرعوا، قال الله -عَزَّ وجَلَّ-: (إن شئت آتيناهم ما سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من قبلهم، وأن شئت نستأني بهم لعلنا ننتج منهم) فقال: ([لا] بل أستأني بهم) (3) فأنزل الله هذه الآية: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً}

أذى قريش [يسبون القرآن]

روى البخاري بسنده عن ابن عباس، في قوله -عَزَّ وجَلَّ-: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} الإسراء الآية 110. قال: نزلت ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – متوار بمكة. فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن. فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به. فقال الله تعالى لنبيه – صلى الله عليه وسلم -: ولا تجهر بصلاتك فيسمع المشركون قراءتك. ولا تخافت بها عن أصحابك. أسمعهم القرآن. ولا تجهر ذلك الجهر. وابتغ بين ذلك سبيلًا. يقول بين الجهر والمخافتة. (1)

أذى قريش [قولهم إنما يعلمه عبد ابن الحضرمي]
روى الحاكم بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -عَزَّ وجَلَّ-: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} سورة النحل: 103 قالوا إنما يعلم محمدا عبد ابن الحضرمي وهو صاحب الكتب فقال لسان الذين يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربى مبين إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله.* هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه* (2)

مفاوضات قريش لأبي طالب وتعاهدها على قتل النبي (صلى الله عليه وسلم)
تهديد قريش لأبي طالب:
قال ابن إسحاق: ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرةً أخرى، فقالوا له: يا أبا طالب؛ إن لك سنًا وشرفًا ومنزلةً فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى نكفه عنا أو ننازله. وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، أو كما قالوا له، ثم انصرفوا عنه، فعظم علىأبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسًا بإسلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا خذلانه. (1)
قال ابن إسحاق وحدَّثني يعقوبُ بنُ عُتْبةً بن المُغيرةِ بن الأخنسِ أنه حدث أن قريشًا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له، فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، قال: فظن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قد بدا لعمه فيه بداءً، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، قال: فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته)، قال: ثم استعبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فبكى، ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا ابن أخي، قال: فأقبل عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا. (2)
روي الحاكم بسنده عن عقيل بن أبي طالب قال: جاءت قريش إلى أبي طالب، فقالوا: إن ابن أخيك يؤذينا في نادينا وفي مجلسنا، فانهه عن أذانا، فقال لي: يا عقيل ائت محمدًا، قال: فانطلقت إليه فأخرجته من كبس، قال طلحة بيت صغير، فجاء في الظهر في شدة الحر، فجعل يطلب الفيء يمشي فيه من شدة حر الرمضاء، فأتيناهم، فقال أبو طالب: إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مجلسهم فانته عن ذلك, فحلق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ببصره إلى السماء، فقال: (ما ترون هذه الشمس) قالوا: نعم، قال: (ما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منها شعلة، فقال أبو طالب: ما كذبنا ابن أخي قط فارجعوا. (3)
روى ابن سعد بأسانيده المتعددة قالوا: لما رأت قريش ظهور الإسلام وجلوس المسلمين حول الكعبة، سقط في أيديهم، فمشوا إلى أبي طالب حتى دخلوا عليهفقالوا: أنت سيدنا وأفضلنا في أنفسنا، وقد رأيت هذا الذي فعل هؤلاء السفهاء مع ابن أخيك من تركهم آلهتنا وطعنهم علينا وتسفيههم أحلامنا، وجاؤوا بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا: قد جئناك بفتى قريش جمالًا ونسبًا ونهادةً وشعرًا ندفعه إليك فيكون لك نصره وميراثه وتدفع إلينا ابن أخيك فنقتله، فإن ذلك أجمع للعشيرة وأفضل في عواقب الأمور مغبةً، قال أبو طالب: والله ما أنصفتموني تعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابن أخي تقتلونه؟ ما هذا بالنصف، تسومونني سوم العرير الذليل.
وروى بأسانيده المتعددة دخل حديث بعضهم في حديث بعض قالوا: فذكر الحديث وفيه: عرض قريش عمارة على أبي طالب ومفاوضتهم له إلى أن قال: وقالوا: لا نعود إليه أبدًا وما خير من أن يغتال محمد، فلما كان مساء تلك الليلة فقد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وجاء أبو طالب وعمومته إلى منزله فلم يجدوه، فجمع فتيانًا من بني هاشم وبني المطلب ثم قال: ليأخذ كل واحدٍ منكم حديدة صارمةً ثم ليتبعني إذا دخلت المسجد، فلينظر كل فتى منكم فليجلس إلى عظيم من عظمائهم فيهم ابن الحنظلية يعني أبا جهل، فإنه لم يغب عن شر إن كان محمد قد قتل، فقال الفتيان: نفعل. فجاء زيد بن حارثة فوجد أبا طالب على تلك الحال، فقال: يا زيد أحسست ابن أخي؟ قال: نعم كنت معه آنفًا، فقال أبو طالب، لا أدخل بيتي أبدًا حتى أراه، فخرج زيد سريعًا حتى أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو في بيت عند الصفا ومعه أصحابه يتحدثون، فأخبره الخبر، فجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي أين كنت؟ أكنت في خير؟ قال: (نعم)، قال: ادخل بيتك، فدخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما أصبح أبو طالب غدا على النبي – صلى الله عليه وسلم – فأخذ بيده فوقف به على أندية قريش، ومعه الفتيان الهاشميون والمطلبيون، فقال: يا معشر قريش هل تدرون ما هممت به؟ قالوا: لا، فأخبرهم الخبر، وقال للفتيان: اكشفوا عما في أيديكم، فكشفوا، فإذا كل رجل منهم معه حديدة صارمة، فقال: والله لو قتلتموه ما بقيت منكم أحدًا حتى نتفانى نحن وأنتم، فانكسر القوم وكان أشدهم انكسارًا أبو جهل.

[أنسب لنا ربك]
حدثنا أحمد بن منيع. أخبرنا أبو سعد هو الصنعاني عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أنسب لنا ربك. (2) فأنزل الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ}

[القدر]
عن أبي هريرة. قال: جاء مشركوا قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في القدر. (3) فنزلت: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.

[سبب نزول والضحى]
عن جندب بن سفيان البجلي -رضي الله عنه-. قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. فلم يقم ليلة أو ليلتين، وفي رواية: ليلتين أو ثلاثًا فجاءته إمراة، فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين، أو ثلاث. (1) قال: فأنزل الله -عَزَّ وجَلَّ-: {وَالضُّحَى, وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى, مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
وفي رواية قال: أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فقال المشركون قد ودع محمد، (2) فأنزل الله -عَزَّ وجَلَّ-: {وَالضُّحَى, وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى, مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}.

[التكذيب]
حدثنا أبو كريب حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان عن أبي إسحق عن ناجية بن كعب عن علي أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به فأنزل الله {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (1).
سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: الصحيح عن أبي إسحق عن ناجية عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم مرسل.

[دعاء الشجرة]
عن أنس قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يومًا وهو جالس حزين وقد ضربه بعض أهل مكة فقال: ما لك؟ قال: (فعل بي هؤلاء وفعلوا). قال: تحب أن أُريك آيةً قال: (نعم). قال: فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال: ادع تلك الشجرة. قال: فدعاها، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، فقال لها: (ارجعي). قال: فرجعت إلى مكانها. (2)
عن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم كان بالحجون وهو كئيب حزين لما آذاه المشركون، فقال: اللَّهم أرني اليوم آيةً فلا أُبالي من كذبني بعدها من قومي، فقيل ناد، فنادى شجرة من قبل عقبة أهل المدينة، فجاءت تشق الأرض حتى انتهت إليه فسلمت عليه، ثم أمرها فرجعت إلى موضعها فقال: ما أبالي من كذبني بعدها من قومي. (3)

[الصفا والمروة]
قال الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا الحسن بن قزعة، حدثنا مسلمة، عن علقمة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن قيس بن جبير، قال: قالتبنت الحكيم: قلت لجدي: (ما رأيت قومًا كانوا أعجز رأيًا في أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم منكم يا بني أمية. فقال: لا تلومينا يا بنية، فإني لا أحدثك إلا ما رأيت بعيني هاتين. قلنا: والله ما نزال نسمع صوت هذا الصابئ يعلو في مسجدنا، فتواعدنا له حتى نأخذه، فتواعدنا إليه، فلما رأيناه سمعنا صوتًا ظننا أنه ما بقي بتهامة جبل إلا تفتت علينا، فأعقلنا حتى قضى صلاته، ورجع إلى أهله، فتواعدنا ليلة أخرى، فلما جاء نهضنا إليه، فرأيت الصفا والمروة التقيا إحداهما بالأخرى، فحالتا بيننا وبينه، فوالله ما نفعنا ذلك. 

قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، أو غيره من العلماء أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى جنبه، فمر به الأسود بن المطلب، فرمى في وجهه بورقة خضراء، فعمي. ومر به الأسود بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه، فاستسقى بطنه، فمات منه حبنا. ومر به الوليد بن المغيرة، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله، كان أصابه قبل ذلك بسنين، وهو يجر سبله، وذلك أنه مر برجل من خزاعة وهو يريش نبلًا له، فتعلق سهم من نبله بإزاره، فخدش في رجله ذلك الخدش، وليس بشيء فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل، فأشار إلى أخمص رجله، وخرج على حمار له يريد الطائف، فربض به على شبارقة، فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته. ومر به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه فامتخض قيحًا، فقتله.

أمر ركانه المطلبي ومصارعته للنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
قال ابن إسحاق وحدثني أبي إسحاق بن يسار قال: كان ركانه بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف أشد قريش، فخلا يوما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في بعض شعاب مكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: يا ركانه، ألا تتقى الله وتقبل ما أدعوك إليه؟ قال: إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك، فقال (له) رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: أفرأيت إن صرعتك، أتعلم أن ما أقول حق؟ قال: نعم، قال: فقم حتى أصارعك. قال: فقام إليه ركانه يصارعه، فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أضجعه، وهو لا يملك من نفسه شيئاً، ثم قال: عُدْ يا محمد، فعاد فصرعه، فقال: يا محمد، والله إن هذا للعجب، أتصرعني! فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه، إن اتقيت الله واتبعت أمري، قال: ما هو؟ قال: ألا دعوا لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني، قال: ادعها، فدعاها، فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قال: فقال لها: ارجعي إلى مكانك. قال: فرجعت إلى مكانها.
قال: فذهب ركانه إلى قومه فقال: يا بني عبد مناف، ساحروا بصاحبكم أهل الأرض، فوالله ما رأيت أسحر منه قط، ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع. (1)
روى أبو داود والترمذيُّ عن أبي جعفر بن محمد بن ركانه عن أبيه: أن ركانه صارع النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فصرعه النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وقال الترمذيُّ: (غريب). قلت: وقد روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن يزيد بن ركانه صارع النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبهوسلم، فصرعه النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ثلاث مرات، كل مرة على مائة من الغنم، فلما كان في الثالثة قال: يا محمد! ما وضع ظهري إلى الأرض أحد قبلك, وما كان أحد أبغض إلي منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.
فقام عنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ورد عليه غنمه.

نزول سورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} غيرت موقف المشركين من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من السِّلم إلى العداوة
روى البخاري بسنده عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد عن عبد الله رضي الله عنه قال: “أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم، قال فسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسجد من خلفه، إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرًا، وهو أمية بن خلف”. (1)
قال ابن إسحاق: فلما بادى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قومه بالإسلام، وصدع به كما أمره الله؛ لم يبعد منه قومه، ولم يردوا عليه -فيما بلغني- حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه، وأجمعوا خلافه وعداوته، إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون. (2)
روى بسنده عن الزهري قال: دعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى الإسلام سرًا وجهرًا، فاستجاب لله من شاء من أحداث الرجال، وضعفاء الناس حتى كثر من آمن به، وكفار قريش غير منكرين لما يقول، فكان إذا مر عليهم في مجالسهم يشيرون إليه أن غلام بني عبد المطب، ليكلم من السماء، فكان ذلك حتى عاب آلهتهم التي يعبدونها دونه، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر، فشنفوا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – عند ذلك وعادوه. (3)
روى بسنده عن عروة، أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإنه -يعني
رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما دعا قومه لما بعثه الله من الهدى والنور الذي أنزل عليه، لم يبعدوا منه أول ما دعاهم، وكادوا يسمعون له؛ حتى ذكر طواغيتهم، وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال، أنكروا ذلك عليه، واشتدُّوا عليه، وكرهوا ماقال لهم، وأغروا به من أطاعهم فانصفق عنه عامة الناس، فتركوه إلا من حفظه الله منهم؛ وهم قليل؛ فمكث بذلك ما قدَّر الله أن يمكث. (1)
روى أحمد بسنده عن المطلب بن أبي وداعة قال: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سجد في النجم، وسجد الناس معه، قال المطلب: ولم أسجد معهم وهو يومئذ مشركٌ قال المطلب: فلا أدع السُّجود فيها أبدًا.

الأسد يفضخ رأس عتيبة بن أبي لهب
روى بسنده عن هبَّار بن الأسود قال: كان أبو لهب وابنه عتيبة قد تجهَّزا إلى الشام وتجهزتُ معهما فقال ابنه عتيبة: والله لأنطلقنَّ إليه فلأُوذِيَنَّهُ في ربه، فانطلق حتى أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا محمد هو يكفر بالذي دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “اللَّهم ابعث عليه كلبًا من كلابك” ثم انصرف عنه فرجع إليه فقال: أي بني ما قلت له؟ قال: كفرت بإلاهه الذي يعبد، قال: فماذا قال لك؟ قال: قال: “اللهمَّ ابعث عليه كلبًا من كلابك”، فقال: أي بني، واللهِ ما آمَنُ عليك دعوة محمد، قال: فسرنا حتى نزلنا الشَّراة وهي مَأسدةُ، فنزلنا إلى صومعة راهب، فقال: يا معشر العرب ما أنزلكم هذه البلاد وإنها مسرح الضَّيْغَمِ؟ فقال لنا أبو لهب: إنكم قد عرفتم حقي، قلنا: أجل يا أبا لهب، فقال: إن محمدًا قد دعا على ابني دعوةً، والله ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة، ثم افرشوا لابني عتيبة، ثم افرشوا حوله، قال: ففعلنا، جمعنا المتاع حتى ارتفع، ثم فرشنا له عليه، وفرشنا حوله، فبينا نحن حوله وأبو لهب معنا أسفل، وبات هو فوق المتاع، فجاء الأسد فشم وجوهنا، فلما لم يجد ما يريد تقبض ثم وثب، فهذا هو فوق المتاع، فجاء الأسد فشم وجهه، ثم هزمه هزمةً ففضخ رأسه، فقال: رأسي يا كلب، لم يقدر على غير ذلك، ووثبنا، فانطق الأسد وقد فضخ رأسه فقال له أبو لهب: قد عرفت والله ما كان لينفلت من دعوة محمدٍ. (1)
وروى بسنده عن ابن طاوس عن أبيه قال: لما تلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} قال عتيبة بن أبي لهب: كفرت برب النجم، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “سلط الله عليك كلبًا من كلابه”. قال: فحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه: قال: خرج عتيبة مع أصحابه في عير إلى الشام حتى إذا كانوا بالشام فزأر الأسد، فجعلت فرائصه تُرعَدُ، فقيل له: من أي شيء ترعد؟ فوالله ما نحنوأنت إلا سواءٌ، فقال: إن محمدًا دعا عليَّ، لا والله ما أظلت السماء على ذي لهجة أصدق من محمدٍ، ثم وضعوا العشاء، فلم يدخل يده فيه، ثم جاء النوم فحاطوه بمتاعهم ووسطوه بينهم وناموا، فجاءهم الأسد يهمس يستنشق رؤوسهم رجلًا رجلًا، حتى انتهى إليه فضغَمَهُ ضَغْمَةً كانت إياها ففزع، وهو بآخر رمق وهو يقول: ألم أقل لكم إن محمدًا أصدق الناس؟ ومات. 

[سعي قريش في تطليق بنات الرسول من أزواجهن]

وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد زوج عتبة بن أبي لهب رقية له أو أمَّ كلثوم. فلما بادى قريشًا بأمر الله تعالى وبالعداوة، قالوا: إنكم قد فرَّغتم محمدًا من همه، فردُّوا عليه بناته، فاشغلوه بهن. فمشوا إلى أبي العاص فقالوا له: فارق صاحبتك ونحن نزوجك أيّ امرأة من قريش شئت؛ قال لا والله، إني لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يثني عليه في صهره خيرًا، فيما بلغني. ثم مشوا إلى عتبة بن أبي لهب، فقالوا له: طلق بنت محمد ونحن ننكحك أيّ امرأة من قريش شئت؛ فقال: إن زوّجتموني بنت أبان بن سعيد بن العاص، أو بنت سعيد بن العاص فارقتها. فزوجوه بنت سعيد بن العاص وفارقها، ولم يكن دخل بها؛ فأخرجها الله من يده كرامةً لها، وهوانًا له، وخلف عليها عثمان بن عفّان بعده. 

طلاق ابنتي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم رقية وأم كلثوم من عتبة وعتيبة ابني أبي لهب (١)

عن قتادة -رضي الله عنه- قال: (تزوج أم كلثوم ابنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عتيبة بن عبد العزى ابن أبي لهب، فلم يبن بها حتى بعث النبي – صلى الله عليه وسلم -، وكانت رقية ابنة النبي – صلى الله عليه وسلم – تحت عتبة أخي عتيبة، فلما أنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} قال أبو لهب لابنيه عتيبة وعتبة: رأسي من رأسكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد! وسأل النبي – صلى الله عليه وسلم – عتبة طلاق رقية، وسألته رقية ذلك، فقالت له أمه -وهي حمالة الحطب-: طلقها يا بني! فإنها قد صبأت، فطلقها، وطلق عتيبة أم كلثوم، وجاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – حيث فارق أم كلثوم، وقال: كفرت بدينك، وفارقت ابنتك، لا تحبني ولا أحبك، ثم سطا عليه، فشق قميص النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو خارج نحو الشام تاجرًا، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أما إني أسأل الله تعالى أن يسلط عليك كلبا! فخرج في نفر من قريش حتى نزلوا بمكان من الشام يقال له الزرقاء ليلًا، فأطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أمي! هو والله آكلي كما دعا محمد علي، ألا! قاتلي ابن أبي كبشة وهو بمكة وأنا بالشام، فعدا عليه الأسد من بين القوم، فأخذ برأسه فضغمه ضغمة فمزعه، فتزوج عثمان بن عفان رقية -رضي الله عنها- فتوفيت عنده، ولم تلد له)

[قريش تهم باغتيال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)]

روى بسنده عن موسى بن عقبة في كتاب المغازي قال: ثم إن قريشًا ائتمرت رويتهم واشتد مكرهم، وهموا بقتل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو إخراجه حين رأوا أصحابه يزدادون ويكثرون، فعرضوا على قومه أن يعطوه ديته ويقتلوه، فأبى ذلك قومه ومنع الله -عَزَّ وجَلَّ-، رسوله بحمية رهطه. (١)

روى بسنده عن ابن عباس في قوله -عَزَّ وجَلَّ-: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا}، قال: كفار قريش، سدًا غطاء، {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} يقول: ألبسنا أبصارهم وغشيناهم فهم لا يبصرون النبي – صلى الله عليه وسلم – فيؤذونه.

وذلك أن أناسًا من بني مخزوم تواصوا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – ليقتلوه؛ منهم: أبو جهل، والوليد ابن المغيرة، ونفر من بني مخزوم, فبينا النبي – صلى الله عليه وسلم – قائم يصلي، فلما سمعوا قراءته أرسلوا الوليد ليقتله، فانطلق حتى انتهى إلى المكان الذي كان يصلي النبي – صلى الله عليه وسلم – فيه، فجعل يسمع قراءته ولا يراه، فانصرف إليهم فأعلمهم ذلك، فأتاه من بعده أبو جهل، والوليد، ونفر منهم، فلما انتهوا إلى المكان الذي هو فيه يصلي سمعوا قراءته فيذهبون إلى الصوت؛ فإذا الصوت من خلفهم، فينتهون إليه فيسمعونه أيضًا من خلفهم، فانصرفوا ولم يجدوا إليه سبيلا، فذلك قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} إلى آخر الآية. (٢)

[النضر بن الحارث يحاول اغتيال النبي (صلى الله عليه وسلم)]

روى بسنده عن عروة بن الزبير قال: كان النضر بن الحارث ممّن يوذي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويتعرض له، فخرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يومًا يريد حاجته نصف النهار، في حر شديد، فبلغ أسفل من ثنية الحجون، وكان يبعد إذا ذهبلحاجته، فرآه النضر بن الحارث فقال: لا أجده أبدًا أخلى منه الساعة فأغتاله، قال: فدنا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم انصرف راجعًا مرعوبًا إلى منزله فلقيه أبو جهل فقال: من أين الآن؟ فقال النضر: اتبعت محمدًا رجاء أن أغتاله، وهو وحده ليس معه أحد، فإذا أساود تضرب بأنيابها على رأسه فاتحة أفواهها، فهالتني فذعرت منها ووليت راجعًا، فقال أبو جهل: هذا بعض سحره.

[قريش تستنكف مجالسة الضعفاء]

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا جلس في المسجد، فجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خباب، وعمار، وأبو فكيهة يسار مولى صفوان بن أمية، وصهيب، وأشباههم من المسلمين؛ هزئت بهم قريش، وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون! أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا بالهدى ودين الحق؟! لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا!

فأنزل الله -عَزَّ وجَلَّ- فيهم: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. (١)

روى بسنده عن سعد قال: كنا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – ستة نفر، فقال المشركون للنبي – صلى الله عليه وسلم – اطرد هؤلاء لا يجنزؤون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال، ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه فأنزل الله -عَزَّ وجَلَّ-: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}.

روى بسنده عن ابن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء؟ فنزل فيهم القرآن: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}(١)

روى بسنده عن سعد بن أبي وقاص في هذه الآية: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} قال: نزلت في خمس من قريش أنا وابن مسعود فيهم، فقالت قريش للنبي – صلى الله عليه وسلم -: لو طردت هؤلاء عنك جالسناك، تدني هؤلاء دوننا، فنزلت: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} إلى قوله: {بِالشَّاكِرِينَ}(٢)

روى بسنده عن سعد قال: نزلت هذه الآية فينا: ستة فيَّ وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال. قال: قالت قريش لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نرضى أن نكون أتباعًا لهم فاطردهم عنك. قال: فدخل قلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من ذلك ما شاء الله أن يدخل فأنزل الله -عَزَّ وجَلَّ-: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ …}

[استهزاؤهم عند سماعهم القرآن]

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا تلا عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله؛ قالوا يهزؤون به: قلوبنا في أكنةٍ مما تدعونا إليه لا نفقه ما تقول، وفي آذاننا وقر لا نسمع ما تقول، ومن بيننا وبينك حجاب قد حال بيننا وبينك، فاعمل بما أنت عليه إننا عاملون بما نحن عليه، إنا لا نفقه عنك شيئًا، فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من قولهم: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} إلى قومه: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} أي: كيف فهموا توحيدك ربك إن كنت جعلت على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرًا وبينك وبينهم حجابًا بزعمهم، أي: إنى لم أفعل ذلك {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} أي: ذلك ما تواصوا به من ترك ما بعثك به إليهم {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} أي أخطئوا المثل الذي ضربوا لك فلا يصيبون به هدى، ولا يعتدل لهم فيه قول {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} أي: قد جئت تخبرنا أنا سنبعث بعد موتنا إذا كنا عظامًا ورفاتًا، وذلك ما لا يكون {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: الذي خلقكم مما تعرفون فليس خلقكم من تراب بأعز من ذلك عليه.

روى ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس، -رضي الله عنهما-، قال: سألته عن قول الله تعالى: {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} ما الذي أراد الله به؟ فقال: الموت. 

امتناعهم من الإيمان حسدًا، وسبب نزول: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ …}

قال ابن إسحاق: فلما جاءهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بما عرفوا من الحق، وعرفوا صدقه فيما حدث، وموقع نبوته فيما جاءهم به من علم الغيوب -حين سألوه عما سألوه عنه- حال الحسد منهم له بينهم وبين اتباعه وتصديقه، فعتوا على الله، وتركوا أمره عيانًا، ولجوا فيما هم عليه من الكفر، فقال قائلهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} أي: اجعلوه لغوًا وباطلا، واتخذوه هزوًا لعلكم تغلبونه بذلك, فإنكم إن ناظرتموه أو خاصمتموه يومًا غلبكم …

فلما قال ذلك بعضهم لبعض جعلوا إذا جهر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالقرآن وهو يصلي يتفرقون عنه، ويأبون أن يستمعوا له، وكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقًا منهم؛ فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم، فلم يستمع، وإن خفض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صوته فظن الذي يستمع أنهم لا يستمعون شيئًا من قراءته وسمع هو شيئًا دونهم أصاخ له يستمع منه. (١)

قال ابن إسحاق بسنده عن عبد الله بن عباس، -رضي الله عنهما-، قال: إنما أنزلت هذه الآية: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} من أجل أولئك النفر؛ يقول: لا تجهر بصلاتك فيتفرقوا عنك، ولا تخافت بها فلا يسمعها من يحب أن يسمعها ممّن يسترق ذلك دونهم لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به.

ذكر ابن هشام ـ وابن كثير ـ في السيرة النبوية حوار زعماء قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم في محاولتهم مساومته وإيقافه عن تبليغه لدينه الذي بعثه الله عز وجل وأرسله به، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: “اجتمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث (بن كلدة)، أخو بني عبد الدار، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان، وأمية بن خلف، أو من اجتمع منهم. قال: اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فأتهم، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء، وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا له: يا محمد، إنا قد بُعِثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلتَ على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك ـ أو كما قالوا له ـ، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنتَ إنما تطلب به الشرف فينا، فنحن نسودك علينا (نجعلك سيدنا وزعيمنا)، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك – وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا – فربما كان ذلك، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، أو كما قال صلى الله عليه وسلم”.

انتقل زعماء قريش إلى نقطة أخرى في حديثهم وحوارهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يُسّيِّر عنهم هذه الجبال التي ضيقت عليهم، وأن يفجر لهم من الأرض ينبوعا، ويبسط لهم البلاد، ويحيى لهم الموتى ـ ولا سيما قصى بن كلاب ـ، قال ابن هشام: “قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا، ولا أقل ماء، ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى، حتى يحكم الله بيني وبينكم ..”.
وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}(الإسراء 90: 93).
قال القرطبي: ” قوله تعالى: “{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} نزلت في رؤساء قريش مثل عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي سفيان والنضر بن الحارث، وأبي جهل وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف وأبي البختري، والوليد بن المغيرة وغيرهم. وذلك أنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن ولم يرضوا به معجزة، اجتمعوا – فيما ذكر ابن إسحاق وغيره – بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة..”.
ردَّ النبي صلى الله عليه وسلم على كلام زعماء قريش بأنه لم يُبعث لكي يقوم بمعجزات من هذا القبيل، وإنما جاءهم رسولا ومبشرا ونذيرا، فقال صلى الله عليه وسلم ـ كما ذكر ابن كثير في تفسيره وابن هشام في السيرة النبوية ـ: “(ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم)”.

لما رأى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية, بمكانه من الله ومن عمّه أبي طالب، وأنه لا يقدر أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنّ بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه؛ فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام