أحداث السنة السادسة من هجرة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم

Events of the sixth year of the Hijrah of the Messenger of Allah, Muhammad (peace and blessings of Allah be upon him)

خرج لعشر ليال خلون من المحرم، على رأس تسعة وخميس شهرًا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في ثلاثين راكبًا إلى القرطاء، وهم بطن من بني أبي بكر بن كلاب، وكانوا ينزلون البكرات بناحية ضريَّة (1) وبين المدينة وضريَّة سبع ليال، وأمره أن يشنَّ عليهم الغارة، فسار الليل وكمن النهار، وأغار عليهم، فقتل نفرًا منهم، وهرب سائرهم، واستاق نعمًا وشاءً ولم يعرض للظعن (2)، وانحدروا إلى المدينة فخمَّس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به (3)، وفضَّ (4) على أصحابه ما بقي، فعدلوا الجزور بعشرة من الغنم، وكانت النَّعم مائة وخمسين بعيرًا، والغنم ثلاثة آلاف شاة، وغاب تسع عشرة ليلة وقدم لليلة بقيت من المحرم (5).
وذكر أبو عبد الله الحاكم أن ثمامة بن أُثال أُخِذ فيها (6).
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بني حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بن أُثَالٍ، سيد أهل اليمامة فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:”مَاذا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ “، فقَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تعط مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتُرِكَه رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ بعد الْغَدُ، فقَالَ: “مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ “، قَالَ: مَا قلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تعط مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: “مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ “، فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تعط مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَقَالَ: “أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ”، فَانْطَلَقَ إلى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورَسُولُه، يَا مُحَمَّدُ وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِن وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كلها إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كله إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كلها إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي، وَأنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أصَبَوْتَ؟ فقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَاللهِ لَا يَأْتِيكُم مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيعَ الأول- أو الآخر- سنة ستٍّ من قدومه المدينة عُكَّاشة بن مِحْصَن الأسديَّ في أربعين رجلاً إلى الغمر، وفيهم ثابت بن أقرم، وسباع بن وهب، فأجدَّ السير، ونذر القوم بهم، فهربوا، فنزل على مياههم، وبعث الطلائع فأصابوا من دلهم على بعض ماشيتهم، فوجدوا مائتي بعير، فساقوها إلى المدينة

خرج محمَّد بن مَسْلَمة رضي الله عنه في هذه السرية معه عشرة نفر، فكمن القوم لهم حتى ناموا، فما شعروا إلا بالقوم، فقُتل أصحاب محمَّد بن مسلمة وأفلت هو جريحًا

خرج أبو عبيدة رضي الله عنه إلى ذي القَصَّة أيضًا في أربعين رجلاً، فساروا ليلتهم مشاة، ووافوها مع الصبح، فأغاروا عليهم، فهربوا منهم في الجبال، وأصابوا رجلاً واحدًا فأسلم

خرج زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى بني سُلَيم بالجموم، فأصاب امرأة من مُزينة يقال لها: حليمة، فدلتهم على مَحِلَّة من محالِّ بني سُلَيم، فأصابوا نَعَمًا وشاءً وأسرى، وكان في الأسرى زوج حليمة، فلما قفل زيد بن حارثة بما أصاب، ووهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمُزينة نفسها وزوجها

أرسل النبي ﷺ زيد بن حارثة رضي الله عنه لمهاجمة قافلة تجارية لقريش قادها أبو العاص بن الربيع (زوج زينب بنت النبي ﷺ آنذاك)

فاستولى المسلمون على القافلة، وأسروا أبا العاص بن الربيع وعددًا من التجار، عندما وصلت الأخبار إلى زينب بنت النبي ﷺ، طلبت من المسلمين إطلاق سراحه، فوافق النبي ﷺ. فعاد أبو العاص  إلى مكة، وأعاد كل أموال القريشيين التي كانت عنده، ثم أسلم وعاد إلى المدينة.

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني لحيان بعد قريظة بستة أشهر ليغزوهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتي رجل، وأظهر أنه يريد الشام، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ثم أسرع السير حتى انتهى إلى بطن غُرَان (2) وادٍ من أودية بلادهم، وهو بين أَمَج وعُسْفان، حيث كان مصاب أصحابه (3).
فترحَّم عليهم ودعا لهم، وسمعت بنو لحيان، فهربوا في رؤوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يقدروا عليهم، فسار إلى عُسْفان، فبعث عشرة فوارس إلى كُراع الغميم لتسمع به قريش، ثم رجع إلى المدينة، وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة

كانت سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى الطَّرِف (2) في جُمادى الأولى إلى بني ثعلبة، في خمسة عشر رجلاً، فهربت الأعراب، وخافوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم، فأصاب- زيد- من نعمهم عشرين بعيرًا، وغاب أربع ليالٍ

أقبل دِحية بن خليفة الكلبيُّ من عند قيصر، وقد أجازه وكساه، فلقيه الهُنيد بن عارض، وابنه عارض بن الهُنيد في ناس من جذام بحِسْمى، فقطعوا عليه الطريق، فلم يتركوا عليه إلا سَمَل ثوب (1)، فسمع بذلك نفر من بني الضُّبيب، فنفروا إليهم، فاستنقذوا لدحية متاعه، وقدم دحيةُ على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فبعث زيد بن حارثة في خمسمائة رجل وردَّ معه دحية، وكان زيد يسير بالليل، ويكمن بالنهار، ومعه دليل له من بني عُذْرة، فأقبل بهم حتى هجم بهم مع الصبح على القوم، فأغاروا عليهم، فقتلوا فيهم فأوجعوا وقتلوا الهُنيد وابنه، وأغاروا على ماشيتهم ونَعمهم ونسائهم، فأخذوا من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف شاة، ومن السبي مائة من النساء والصبيان (2).
وقيل: أن رفاعة بن زيد الجُذاميَّ أتى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه ردَّ الأسر، والسبايا والأموال، فردَّهم النبي صلى الله عليه وسلم

أُصيب يومئذ من المسلمين ورد ابن مِرداس، وارْتُثَّ (4) زيد بن حارثة من بين وسط القتلى (5).
وقيل: أن زيدًا خرج بتجارة إلى الشام ومعه بضائع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان دون وادي القرى لقيه ناس من فزارة، فضربوه وضربوا أصحابه،وأخذوا ما معه من مال

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دُومة الجندل في شعبان، وقال له: إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم، فأسلم القوم، وتزوج عبد الرحمن رضي الله عنه تُماضر بنت الأصبغ، وكان أبوها رأسهم وملكهم

بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني سعد بن بكر بفدك لهم جمعًا يريدون أن يُمدُّوا يهود خيبر، فبعث إليهم عليًا في مائة رجل فسار الليل وكمن النهار، حتى انتهى إلى الغمِج (3) وهو ماء بين خيبر وفدك، وبين فدك والمدينة ست ليال، فوجدوا به رجلاً،فسألوه عن القوم، فقال: أُخبركم على أنكم تُؤمنوني، فأمَّنوه، فدلهم، فأغاروا عليهم، وأخذوا خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظعُن ورأسُهم وَبْرُ بن عُليم، فعزل عليٌّ- صفيُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوحًا تدعى الحفِدة، ثم عزل الخمس، وقسم سائر الغنائم على أصحابه

تقدم أن زيد بن حارثة رضي الله عنه كان خارجًا بتجارة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه ناس من فزارة بناحية وادي القرى، فضربوه وأصحابه وأخذوا ما معهم من مال، وانفلت زيد من بين القتلى.
‌‌قال ابن إسحاق رحمه الله:
فلما قدم زيد بن حارثة نذر أن لا يمس رأسه غسلٌ من جنابة، حتى يغزو فزارة فلما اسْتبلَّ من جراحه (2) بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش إلى بني فزارة، فلقيهم بوادي القرى، وأصاب فيهم، وأسر أم قِرفة، وهي فاطمة بنت زمعة بن بدر، وكانت عند حذيفة بن بدر عجوزًا كبيرة، وبنتًا لها، وعبد الله بن مسعدة فأمر زيد بن حارثة أن تقتل أم قرفة، فقتلها.
ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنة أم قرفة، وبعبد الله بن مسعدة، فكانت بنت أم قرفة لسلمة بن الأكوع، وكان هو الذي أصابها يقول سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: غَزَوْنَا فَزَارَةَ وَعَلَيْنَا أبو بَكْرٍ، أَمَّرَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَينَا، فَلَمَّا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَاءِ سَاعَةٌ، أَمَرَنَا أبو بَكْرٍ فَعَرَّسْنَا (1) ثُمَّ شَنَّ الْغَارَةَ، فَوَرَدَ الْمَاءَ، فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ عَلَيْهِ، وَسَبَى، وَأَنْظُرُ إلى عُنُقٍ مِنْ النَّاسِ (2) فِيهِمْ الذَّرَارِيُّ، فَخَشِيتُ أَنْ يَسْبِقُونِي إلى الْجَبَلِ، فَرَمَيْتُ بِسَهْمٍ بَيْنهُمْ وَبَيْنَ الْجَبَلِ، فَلَمَّا رَأَوْا السَّهْمَ وَقَفُوا، فَجِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ، وَفِيهِم امْرَأَةٌ مِنْ بني فَزَارَةَ عَلَيْهَا قَشْعٌ مِنْ أَدَمٍ – قَالَ: الْقَشْعُ النِّطَعُ- مَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَبِ، فَسُقْتُهُمْ حَتَّى أَتَيْتُ بِهِمْ أَبَا بَكْرٍ، فَنَفَّلَنِي أبو بَكْرٍ ابْنَتَهَا، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، فَلَقِيَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في السُّوقِ، فَقَالَ: “يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ”، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله وَاللهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، ثُمَّ لَقِيَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الْغَدِ في السُّوقِ، فَقَالَ لِي: “يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ لِلَّهِ أَبُوكَ (3) “، فَقُلْتُ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ الله فَوَاللهِ مَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، فَبَعَثَ بِهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أَهْلِ مَكَّةَ فَفَدَى بِهَا نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أُسِرُوا بِمَكَّةَ

بنو المصطلق بطن من قبيلة خزاعة الأزْديَّة اليمانية، وكانوا يسكنون قديدًا وعُسْفان على الطريق من المدينة إلى مكة، فقديد تبعد عن مكة 120 كيلو متر، وعُسْفان تبعد 80 كيلو مترًا، فيكون بينهما أربعون كيلو، في حين تنتشر ديار خزاعة على الطريق من المدينة إلى مكة ما بين مَرِّ الظهران التي تبعد عن مكة 30 كيلو وبين الأبواء (شرق مستورة بثلاثة أكيال) التي تبعد عن مكة 240 كيلو، وبذلك يتوسط بنو المصطلق ديار خزاعة، وموقعهم مهم بالنسبة للصراع بين المسلمين وقريش، وقد عُرفت خزاعة بموقفها المسالم للمسلمين، وربما كان لصلات النسب والمصالح مع الأنصار تأثير في تحسين العلاقات رغم المحالفات القديمة بينهم وبين قريش ذات المصالح الكبرى في الطريق التجارية إلى الشام، ورغم سيادة الشرك في ديار خزاعة حيث كانت هضبة المشلل التي كانت بها (مناة) في قديد، ورغم أن ديارها كانت أقرب إلى مكة منها إلى المدينة.
ولعل هذه العوامل أعاقت – في نفس الوقت – انتشار الإسلام في خزاعة عامة وبني المصطلق خاصة الذين يستفيدون إلى جانب الموقع التجاري بوجود مناة الطاغية في ديارهم معنويًا وماديًا حيث يحج إليها العرب.
وأول موقف عدائي لبني المصطلق من الإسلام كان في إسهامهم ضمن الأحابيش في جيش قريش في غزوة أُحد.
وقد تجرأت بنو المصطلق على المسلمين نتيجة لغزوة أحد، كما تجرأت القبائل الأخرى المحيطة بالمدينة ولعلها كانت تخشى انتقام المسلمين منها لدورها في غزوة أحد، وكذلك كانت ترغب في أنْ يبقى الطريق التجاري مفتوحًا أمام قريش لا يهدده أحد لما في ذلك من مصالح لها محققة فكانت بزعامة الحارث بن أبي ضرار تتهيأ للأمر بجمع الرجال والسلاح وتأليب القبائل المجاورة ضد المسلمين (1).

‌‌قال ابن إسحاق رحمه الله -:
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء لهم يقال له (المريسيع) ولذلك تسمى أيضًا بغزوة المريسيع من ناحية قُديد إلى الساحل فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم ونفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءهم عليه (1).
عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بني الْمُصْطَلِقِ فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ فَأَرَدْنَا أَنْ نَعْزِلَ، وَقُلْنَا: نَعْزِلُ وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَبلَ أَنْ نَسْأَلَهُ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: “مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ” (2).
وقد أَغَارَ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى بني الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ (3) وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ رضي الله عنها

ولما انتصر المسلمون في تلك المعركة وظهروا على عدوهم اغتاظ المنافقون غيظًا شديدًا وظهر حقدهم الذي كان دفينًا، فهذا عبد الله بن أبي بن سلول لم يستطع كتم غيظه.
عَنْ زَيْدِ بن أَرْقَمَ رضي الله عنه أنه سمع عبد الله بن أبي يَقُولُ لأصحابه: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، وقال: وَلَئِنْ رَجَعْنَا إلى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، قال زيد رضي الله عنه: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل، فقالوا: كذب زيدٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى أَنْزَلَ الله تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1]، ثم دعاهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم، قال: فلوَّوا رءوسهم (1).
وعن جَابِرَ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا في غَزَاةٍ فَكَسَعَ (2) رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: “مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ “، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصارِ، فَقَالَ: “دَعُوهَا فَإنَّهَا مُنْتِنَةٌ”، فَسَمِعَ بِذَلِكَ عبد الله بن أُبَيٍّ، فَقَالَ: فَعَلُوهَا؟ أَمَا وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إلى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَبَلَغَ – ذلك – النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ” (1).
فلما سمع ابْنُهُ عبد الله بأن أباه قال هذا، قال: وَاللهِ لَا تَنْقَلِبُ حَتَّى تُقِرَّ أَنَّكَ الذَّلِيلُ وَرَسُولُ الله الْعَزِيزُ، فَفَعَلَ

لم يكتف عبد الله بن أبي بما فعله حين الرجوع من غزوة بني المصطلق من محاولة تأليب المسلمين بعضهم على بعض، وبما قاله في حق النبي صلى الله عليه وسلم، حتى فعل أمرًا عظيمًا وافترى على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الطاهرة الشريفة العفيفة الحصان الرَّزان، وطعنها في شرفها، وافترى عليها كذبًا.
ولنترك السيدة عائشة رضي الله عنها تحكي لنا تفاصيل ما حدث، تقول السيدة عائشة: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فَأَيُّهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَعَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَينَنَا في غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ فَكُنْتُ أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ فَسِرْنَا حَتَّى إِذا فَرَغَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ دَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إلى رَحْلِي فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدْ انْقَطَعَ فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ قَالَتْ: وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يُرَحِّلُونِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ عَلَيْهِ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَهْبُلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ إِنَّمَا يَأكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ وَحَمَلُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الْجَمَلَ فَسَارُوا وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْهُمْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَزجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ في مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ وَكَانَ صَفْوَانُ بن الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي وَكَانَ رَآنِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَاسْتَيقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابي وَوَاللهِ مَا تَكَلَّمْنَا بِكَلِمَةٍ وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرجَاعِهِ وَهَوَى حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ مُوغِرِينَ في نَحْرِ الظَّهِيرَةِ وَهُمْ نُزُولٌ قَالَتْ: فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَ الْإِفْكِ عبد الله بن أبي بن سَلُولَ قَالَ عُرْوَةُ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ كَانَ يُشَاعُ وَيُتَحَدَّثُ بِهِ عِنْدَهُ فَيُقِرُّهُ وَيَسْتَمِعُهُ وَيَسْتَوْشِيهِ وَقَالَ عُرْوَةُ أَيْضًا لَمْ يُسَمَّ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ أَيْضًا إِلَّا حَسَّانُ بن ثَابِتٍ وَمِسْطَحُ بن أُثَاثَةَ وَحَمْنَةُ بنتُ جَحْشٍ في نَاسٍ آخَرِينَ لَا عِلْمَ لِي بِهِمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ عُصْبَةٌ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى وَإِنَّ كِبْرَ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ عبد الله بن أبي بن سَلُولَ قَالَ عُرْوَةُ كَانَتْ عَائِشَةُ تَكْرَهُ أَنْ يُسَبَّ عِنْدَهَا حَسَّانُ وَتَقُولُ إِنَّهُ الَّذِي قَالَ:
فَإِنَّ أبي وَوَالِدهَ وَعِرْضِي … لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ في قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ لَا أَشْعُرُ بشَيءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَرِيبُنِي في وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الًّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي إِنَّمَا يدخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: “كَيْفَ تِيكُمْ؟ ” ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَذَلِكَ يَرِيبُنِي وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ حِينَ نَقَهْتُ فَخَرَجْتُ مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَكَانَ مُتَبَرَّزَنَا وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إلى لَيْلٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، قَالَتْ: وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ في الْبَرِّيَّةِ قِبَلَ الْغَائِطِ وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا، قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ ابْنَةُ أبي رُهْمِ بن الْمُطَّلِبِ بن عبد مَنَافٍ وَأُمُّهَا بنتُ صَخْرِ بن عَامِرٍ خَالَةُ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بن أُثَاثَةَ بن عَبَّادِ بن الْمُطَّلِبِ فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ في مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فَقَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهْ وَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قَالَتْ: وَقُلْتُ: مَا قَالَ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، قَالَتْ: فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي فَلَمَّا رَجعْتُ إلى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: “كَيْفَ تِيكُمْ؟ ” فَقُلْتُ لَهُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ، قَالَتْ: وَأُرِيدُ أَنْ أَسْتَيقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، قَالَتْ: فَأَذِنَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهُ مَاذَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: يَا بنيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَوَاللهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضيئَةً عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا، قَالَتْ: فَقُلْتُ: سُبْحَانَ الله أَوَ لَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ قَالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بنوْمٍ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي، قَالَتْ: وَدَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بن أبي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بن زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْأَلُهُمَا وَيَسْتَشِيرُهُمَا في فِرَاقِ أَهْلِهِ، قَالَتْ: فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ في نَفْسِهِ، فَقَالَ أسَامَةُ: أَهْلَكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله لَمْ يُضَيِّقْ الله عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ وَسَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ، قالَتْ: فَدَعا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ، فَقالَ: “أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيءٍ يَرِيبُكِ؟ ” قالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ: والَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ما رَأَيْتُ عَلَيْها أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ غَيْرَ أَنَّها جارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ، قالَتْ: فَقامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ يَوْمِهِ فاسْتَعْذَرَ مِنْ عبد الله بن أبي وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقالَ: “يا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُني مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي عَنْه أَذَاهُ في أَهْلِي واللهِ ما عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلّا خَيْرًا وَلَقَد ذَكَرُوا رَجُلًا ما عَلِمْتُ عَلَيهِ إِلّا خَيرًا وَما يدخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلّا مَعِي”، قالَتْ: فَقامَ سَعْدُ بن مُعاذٍ أَخُو بني عبد الْأَشْهَلِ فَقالَ: أَنا يا رَسُولَ الله أَعْذِرُكَ فَإِنْ كانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ وَإِنْ كانَ مِنْ إِخْوانِنا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ، قالَتْ: فَقامَ رَجُلٌ مِنْ الْخَزْرَجِ وَكانَتْ أُمُّ حَسّانَ بنتَ عَمِّهِ مِنْ فَخِذِهِ وَهُوَ سَعْدُ بن عُبادةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، قالَتْ: وَكانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَقالَ لِسَعْدٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ الله لا تَقْتُلُهُ وَلا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ وَلَوْ كانَ مِنْ رَهْطِكَ ما أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ فَقامَ أُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدٍ، فَقالَ لِسَعْدِ بن عُبادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ الله لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنافِقٌ تُجادِلُ عَنْ الْمُنافِقِينَ، قالَتْ: فَثارَ الْحَيّانِ الْأَوْسُ والْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، قالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُم حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ، قالَتْ: فَبَكَيتُ يَوْمِي ذَلِكَ كُلَّهُ لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلا أَكْتَحِلُ بنوْمٍ، قالَتْ: وَأَصْبَحَ أَبَوايَ عِنْدِي وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لا يَرْقَأُ لِي دَمْغٌ وَلا أَكْتَحِلُ بنوْمٍ حَتَّى إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ الْبُكاءَ فالِقٌ كَبِدِي، فَبَيْنا أَبَوايَ جالِسانِ عِنْدِي وَأَنا أَبْكِي فاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصارِ، فَأَذِنْتُ لَها، فَجَلَسَتْ تَبكِي مَعِي، قالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَينا فَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ، قالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ ما قِيلَ قَبْلَها وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لا يُوحَى إِلَيهِ في شَأْنِي بِشَيءٍ، قالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قالَ: “أَمّا بَعْدُ يا عائِشَةُ إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ الله وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فاسْتَغْفِرِي الله وَتُوبِي إِلَيهِ فَإنَّ الْعبد إِذَا اعْتَرَفَ ثُمَّ تابَ تابَ الله عَلَيهِ”، قالَتْ: فَلَمّا قَضَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَقالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى ما أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنِّي فِيما قالَ، فَقالَ أَبِي: واللهِ ما أَدْرِي ما أَقُولُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فِيما قَالَ قالَتْ أُمِّي: واللهِ ما أَدْرِي ما أَقُولُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: وَأَنا جارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لا أَقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ كَثِيرًا إِنِّي واللهِ لَقَد عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ في أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ لا تُصَدِّقُونِي وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ واللهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي فَواللهِ لا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلّا أَبا يُوسُفَ حِينَ قالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] ثُمَّ تَحَوَّلْتُ واضْطَجَعْتُ عَلَى فِراشِي واللهُ يَعْلَمُ أَنِّي حِينَئِذٍ بَرِيئَةٌ وَأَنَّ الله مُبَرِّئِي بِبَراءَتِي وَلَكِنْ واللهِ ما كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الله مُنْزِلٌ في شَأنِي وَحْيًا يُتْلَى لَشَأْنِي في نَفْسِي كانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ الله فِيَّ بِأَمْرٍ، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في النَّوْمِ رُؤْيا يُبَرِّئُنِي الله بِها فَواللهِ ما رَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَجْلِسَهُ وَلا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ ما كانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحاءِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِنْ الْعَرَقِ مِثْلُ الْجُمانِ وَهُوَ في يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ قالَتْ فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَضْحَكُ فَكانَتْ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِها أَنْ قالَ: “يا عَائِشَةُ أَمَّا الله فَقَدْ بَرَّأَكِ”، قالَتْ: فَقالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيهِ، فَقُلْتُ: واللهِ لا أَقُومُ إِلَيهِ فَإِنِّي لا أَحمَدُ إِلّا الله عز وجل، قالَتْ: وَأَنْزَلَ الله تَعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] الْعَشْرَ الْآياتِ ثُمَّ أَنْزَلَ الله هَذا في بَراءَتِي، قالَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: وَكانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بن أُثاثَةَ لِقَرابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ واللهِ لا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قالَ لِعائِشَةَ ما قالَ فَأَنْزَلَ الله: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، قالَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: بَلَى واللهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ الله لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كانَ يُنْفِقُ عَلَيهِ، وَقالَ: واللهِ لا أَنْزِعُها مِنْهُ أَبَدًا، قالَتْ عائِشَةُ: وَكانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم سَأَلَ زَيْنَبَ بنتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقالَ لِزَيْنَبَ: ماذا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ، فَقالَتْ: يا رَسُولَ الله أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي واللهِ ما عَلِمْتُ إِلّا خَيْرًا، قالَتْ عائِشَةُ: وَهِيَ الَّتِي كانَتْ تُسامِينِي مِنْ أَزْواجِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَعَصَمَها الله بِالْوَرَعِ، قالَتْ: وَطَفِقَتْ أُخْتُها حَمْنَةُ تُحارِبُ لَها فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ

كان مما صنع الله به لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هذين الحيَّين من الأنصار، الأوس والخزرج كانا يتصاولان (4) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئًا فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غناء (5) إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلاً علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الإِسلام قال: فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئًا قالت الأوس مثل ذلك (1).
ولما انقضى شأن الخندق، وأمر بني قريظة، وكان سلام بن أبي الحُقيق- وهو أبو رافع- فيمن حزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الأوس قبل أُحُد قد قتلت كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريضه عليه استأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحُقيق، وهو بخيبر فأذن لهم (2).
عن الْبَرَاءِ بن عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، إلى أبي رَافِعٍ، عبد الله بن عَتِيكٍ وَعبد الله بن عُتْبَةَ في نَاسٍ مَعَهُمْ فَانْطَلَقُوا حَتَّى دَنَوْا مِنْ الْحِصنِ، فَقَالَ لَهُمْ عبد الله بن عَتِيكٍ: امْكُثُوا أَنْتُمْ حَتَّى أَنْطَلِقَ أَنَا فَأَنْظُرَ، قَالَ: فَتَلَطَّفْتُ أَنْ أَدْخُلَ الْحِصْنَ، فَفَقَدُوا حِمَارًا لَهُمْ- وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم (3) – فَخَرَجُوا بِقَبَسٍ (4) يَطْلُبُونَهُ، قَالَ: فَخَشِيتُ أَنْ أُعْرَفَ، قَالَ: فَغَطَّيْت رَأْسِي وَجَلَسْتُ كَأَنِّي أَقْضِي حَاجَةً، ثُمَّ نَادَى صَاحِبُ الْبَابِ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ فَلْيَدْخُلْ قَبْلَ أَنْ أُغْلِقَهُ، فَدَخَلْتُ ثُمَّ اخْتَبَأْتُ في مَرْبِطِ حِمَارٍ عِنْدَ بَابِ الْحِصْنِ، فَتَعَشَّوْا عِنْدَ أبي رَافِعٍ وَتَحَدَّثُوا حَتَّى ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ، ثُمَّ رَجَعُوا إلى بُيُوتِهِمْ، فَلَمَّا هَدَأَتْ الْأَصْوَاتُ، وَلَا أَسْمَعُ حَرَكَةً خَرَجْتُ، قَالَ: وَرَأَيْتُ صَاحِبَ الْبَابِ حَيْثُ وَضَعَ مِفْتَاحَ الْحِصْنِ في كَوَّةٍ، فَأَخَذْتُهُ فَفَتَحْتُ بِهِ بَابَ الْحِصْنِ، قَالَ: قُلْتُ: إِنْ نَذِرَ بِي الْقَوْمُ انْطَلَقْتُ عَلَى مَهَلٍ ثُمَّ عَمَدْتُ إلى أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ فَغَلَّقْتُهَا عَلَيْهِمْ مِنْ ظَاهِرٍ ثُمَّ صَعِدْتُ إلى أبي رَافِعٍ في سُلَّمٍ فَإِذَا الْبَيْتُ مُظْلِمٌ قَدْ طَفِئَ سِرَاجُهُ فَلَمْ أَدْرِ أَيْنَ الرَّجُلُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: فَعَمَدْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ فَأَضْرِبُهُ وَصَاحَ فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ كَأَنِّي أُغِيثُهُ، فَقُلْتُ: مَالَكَ يَا أَبَا رَافِعٍ؟ وَغَيَّرْتُ صَوْتِي، فَقَالَ: أَلَا أُعْجِبُكَ لِأُمِّكَ الْوَيْلُ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ فَضَرَبَنِي بِالسَّيْفِ، قَالَ: فَعَمَدْتُ لَهُ أَيْضًا فَأَضْرِبُهُ أُخْرَى فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا فَصَاحَ وَقَامَ أَهْلُهُ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ وَغَيَّرْتُ صَوْتِي كَهَيْئَةِ الْمُغِيثِ فَإِذَا هُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَأَضَعُ السَّيْفَ في بَطْنِهِ ثُمَّ أَنْكَفِئُ عَلَيْهِ- حتى أخذ في ظهره- حَتَّى سَمِعْتُ صَوْتَ الْعَظْمِ، ثُمَّ خَرَجْتُ دَهِشًا حَتَّى أَتَيْتُ السُّلَّمَ أُرِيدُ أَنْ أَنْزِلَ فَأَسْقُطُ مِنْهُ فَانْخَلَعَتْ رِجْلِي فَعَصَبْتُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ أصحابي أَحْجُلُ، فَقُلْتُ: انْطَلِقُوا فَبَشِّرُوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَسْمَعَ النَّاعِيَةَ، فَلَمَّا كَانَ في وَجْهِ الصُّبْحِ صَعِدَ النَّاعِيَةُ، فَقَالَ: أَنْعَى أَبَا رَافِعٍ، قَالَ: فَقُمْتُ أَمْشِي مَا بِي قَلَبَةٌ فَأَدْرَكْتُ أصحابي قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَشَّرْتُهُ، فَقَالَ: “ابْسُطْ رِجْلَكَ”، فَبَسَطْتُ رِجْلِي فَمَسَحَهَا فَكَأَنَّهَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ بنتُ الْحَارِثِ بن الْمُصْطَلِقِ في سَهْمِ ثَابِتِ بن قَيْسِ بن شَمَّاسٍ – أَوْ ابْنِ عَمٍّ لَهُ – فَكَاتَبَتْ عَلَى نَفْسِهَا، وَكَانَتْ امْرَأَةً مَلَّاحَةً تَأْخُذُهَا الْعَيْنُ، قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَجَاءَتْ تَسْأَلُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابَتِهَا (3) فَلَمَّا قَامَتْ عَلَى الْبَابِ فَرَأَيْتُهَا كَرِهْتُ مَكَانَهَا، وَعَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سَيَرَى مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي رَأَيْتُ، فَقَالَتْ – جويرية -: يَا رَسُولَ الله جُوَيْرِيَةُ بنتُ الْحَارِثِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ أَمْرِي مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ، وَإِنِّي وَقَعْتُ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بن قَيْسِ بن شَمَّاسٍ وَإِنِّي كَاتَبْتُ عَلَى نَفْسِي فَجِئْتُكَ أَسْأَلُكَ في كِتَابَتِي؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “فَهَلْ لَكِ إلى مَا هُوَ خَيرٌ مِنْهُ؟ “، قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: “أُؤَدِّي عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكِ”، قَالَتْ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَتْ: فَتَسَامَعَ – تَعْنِي النَّاسَ – أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ تَزَوَّجَ جُوَيْرِيَةَ، فَأَرْسَلُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ السَّبْيِ، فَأَعْتَقُوهُمْ، وَقَالُوا: أَصْهَارُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم! فَمَا رَأَيْنَا امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا أُعْتِقَ في سَبَبِهَا مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بني الْمُصطَلِقِ

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: شَكَا النَّاسُ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبر فَوُضِعَ لَهُ في الْمُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ:فَخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَكَبَّرَ وَحَمِدَ الله عز وجل، ثُمَّ قَالَ: “إنَّكُم شَكَوْتُم جَدْبَ دِيَارِكُم، وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُم، وَقَدْ أَمَرَكُم الله عز وجل أَنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُم أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُم”، ثُمَّ قَالَ: “الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللهمَّ أَنْتَ الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْغَنِي وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إلى حِينٍ”، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ في الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إلى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلَبَ- أَوْ حَوَّلَ- رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَنَزَلَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ الله سَحَابَةً فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ الله، فَلَمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالَتْ السُّيُولُ، فَلَمَّا رَأَى سرْعَتَهُمْ إِلَى الْكِنِّ، ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، فَقَالَ: “أَشْهَدُ أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ وَأنِّي عبد الله وَرَسُولُهُ”

لما قُتل أبو رافع سلام بن أبي الحُقيق أمَّرت يهود عليهم أُسير بن رزام، فسار في غطفان وغيرهم، فجمعهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجَّه عبد الله بن رواحة في ثلاثة نفر، في شهر رمضان سرًا، فسأل عن خبره وغرَّته، فأُخبر بذلك، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانْتُدب له ثلاثون رجلاً، فبعث عليهم عبد الله بن رواحة،فقدموا على أُسير فقالوا: نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له، قال: نعم، ولي منكم مثل ذلك، فقالوا: نعم، فقلنا: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك لتخرج إليه فيستعملك على خيبر ويُحسن إليك، فطمع في ذلك، فخرج، وخرج معه ثلاثون رجلاً من اليهود مع كل رجل رديف من المسلمين، حتى إذا كانوا بقرقرة نبار ندم أُسير، فقال عبد الله بن أُنيس الجهني، وكان في السرية: وأهوى بيده إلى سيفي، ففطنت له، ودفعت بعيري، وقلت: غدرًا أي عدو الله، فعل ذلك مرتين، فنزلت، فسقت بالقوم حتى انفرد لي أُسير، فضربته بالسيف فأندرتُ (1) عامَّة فخذه وساقه، وسقط عن بعيره وبيده مِخْرِش (2) من شَوْحط (3) فضربني فشجَّني مأمومة (4) وملنا على أصحابه فقتلناهم كما هم، غير رجل واحد أعجزنا شدًّا، ولم يُصب من المسلمين أحد، ثم أقلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدَّثناه الحديث، فقال: “قد نجَّاكم الله من القوم الظالمين”

عن أنس رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ- ثمانية- قَدِمُوا الْمَدِينَةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: يَا نَبِي الله إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ، وَلَم نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِذَوْدٍ وَرَاعٍ، وَأَمَرَهُم أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا نَاحِيَةَ الْحَرَّةِ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِم، وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ فَبَلَغَ النَبِي صلى الله عليه وسلم فبَعَثَ الطَّلَبَ في آثَارِهِمْ فَأَمَرَ بِهِمْ فَسَمَرُوا أَعْيُنَهُمْ، وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ، وَتُرِكُوا في نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالِهِمْ

بَعَثَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَمَّرَ عَلَينَا أَبَا عُبَيدَةَ، نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ، فَكَانَ أبو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً، قيل لجابر: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصنَعُونَ بِهَا، قَالَ: نَمَصُّهَا كَمَا يَمَصُّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنْ الْمَاءِ فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إلى اللَّيْلِ، وَكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبَطَ، ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالْمَاءِ فَنَأْكُلُهُ، قَالَ: وَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِل الْبَحْرِ فَرُفِعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيب الضَّخْمٍ (1)، فَأَتَيْنَاهُ فَإِذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ (2)، قَالَ أبو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا بَلْ نحْنُ رُسُلُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَفِي سبِيلِ الله وَقَدْ اضطُرِرْتُمْ فَكُلُوا، قَالَ: فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا وَنَحْنُ ثَلَاثُ مِائَةٍ حَتَّى سَمِنَّا، قَالَ: وَلَقَدْ رَأيْتُنَا نَغْتَرِفُ مِن وَقْب عَيْنِهِ (3) بِالْقِلَالِ الدُّهْنَ، وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفِدَرَ كَالثَّوْرِ (4) أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْرِ، فَلَقَدْ أخَذَ مِنَّا أبو عُبَيْدَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَأقْعَدَهُمْ في وَقْب عَينِهِ، وَأَخَذَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَأَقَامَهَا ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِيرٍ مَعَنَا فَمَرَّ مِنْ تَحْتِهَا وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ (5)، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَينَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: “هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ الله لَكُم فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيءٌ فَتُطْعِمُونَا”، قَالَ: فَأَرْسَلْنَا إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْهُ فَأَكَلَهُ

قدم تسعة من أفراد هذه القبيلة إلى النبي محمد ﷺ في المدينة المنورة، معلنين إسلامهم ورغبتهم في الجهاد في سبيل الله. استجابةً لرغبتهم، عقد لهم النبي ﷺ لواءً، وقام طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه بعقد اللواء لهم، وكان شعارهم “يا عشرة”. سألوا النبي ﷺ عن كيفية تقسيم الغنيمة بينهم إذا أصابوها وهم تسعة، فأجابهم النبي ﷺ قائلاً: “أنا عاشركم”.أرسلهم النبي ﷺ في سرية لاعتراض قافلة لقريش كانت قادمة من الشام، بهدف إضعاف الاقتصاد القرشي.

خرج النبي صلى الله عليه وسلم متوجهًا إلى بيت الله الحرام قاصدًا العمرة، وخرج معه ألفٌ وأربعمائة من الصحابة رضوان الله عليهم (3) مُتسلِّحين بالسلاح (4) حَذَرًا من قريش، وساقوا معهم الهدي.

فَلَمَّا أَتَى النبي صلى الله عليه وسلم ذَا الْحُلَيْفَةِ (1) قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ (2)، وَأَحْرَمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ، وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ -وهو بشر بن سفيان الكعبي، ليعلم له أخبار قريش- وَسَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ (3) أَتَاهُ عَيْنُهُ، فقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا وَقَدْ جَمَعُوا لَكَ الْأَحَابِيشَ (4) وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ وَمَانِعُوكَ، فَقَالَ: “أَشِيرُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيَّ أَتَرَوْنَ أَنْ أَمِيلَ إلى عِيَالِهِمْ وَزَرَارِيِّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّونَا عَنْ الْبَيتِ، فَإِنْ يَأْتُونَا كَانَ الله عز وجل قَدْ قَطَعَ عَيْنًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَإِلَّا تَرَكْنَاهُمْ مَحْرُوبِينَ”، قَالَ أبو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ الله خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ لَا تُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ وَلَا حَرْبَ أَحَدٍ، فَتَوَجَّهْ لَهُ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ، فقَالَ- رسول الله-: “امْضُوا عَلَى اسْمِ الله” (5).
فسار النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ: “إِنَّ خَالِدَ بن الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ في خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةٌ (6) فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ”، فَوَ اللهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ (1) فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ (2) فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ (3)، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ (4) “، ثُمَّ قَالَ: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ الله إِلَّا أَعْطَيتُهُمْ إِيَّاهَا”، ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ (5) قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا (6)، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ وَشُكِيَ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ أَمَرَهُم أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ فَوَاللهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بن وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ في نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ وَكَانُوا عَيبَةَ نُصْحِ (7) رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بن لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بن لُؤَيٍّ (8) نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ (1) الْحُدَيْبِيَةِ وَمَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ (2) وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُم الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمِ فَإنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ (3) مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَينِي وَبَيْنَ النَّاسِ فَإنْ أَظْهَرْ فَإنْ شَاءُوا أنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا (4) وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي (5) وَلَيُنْفِذَنَّ الله أَمْرَهُ”، فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، قَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيءٍ، وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ عُرْوَةُ بن مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ (6) فَلَمَّا بَلَّحُوا (7) عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِيهِ، قَالُوا: ائْتِهِ، فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إِنْ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَب اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى فَإِنِّي وَاللهِ لَأَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لَأَرَى أَوشَابًا مِنْ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ، فَقَالَ لَهُ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: امْصُصْ ببَظْرِ اللَّاتِ (1) أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟ فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أبو بَكْرٍ، قَالَ: أَمَا وَالًّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ، قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ السَّيفُ وَعَلَيهِ الْمِغْفَز فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إلى لِحْيَةِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ يَدَهُ بنعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَرَفِعَ عُرْوَةُ رَأسَهُ، فَقَالَ: مَن هَذَا؟ قَالُوا الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ: فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ أَلَسْتُ أسْعَى في غَدْرَتِكَ؟ (2)، وَكَانَ الْمُغِيرَة صَحِبَ قَوْمًا في الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “أَمَّا الْإِسْلَامَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ في شَيءٍ”، ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَ اللهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إلى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ وَاللهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدًا، وَاللهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بني كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَأَصحَابِهِ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:”هَذَا فُلَانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ”، فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ، قَالَ: سُبْحَانَ الله مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إلى أَصْحَابِهِ، قَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: مِكْرَزُ بن حَفْصٍ، فَقَالَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيهِم، قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: “هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ”، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ، إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بن عَمْرٍو، فلَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بن عَمْرٍو، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ”، فَجَاءَ سُهَيلُ بن عَمْرو، فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَينَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ: “بِسْم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”، قَالَ سُهَيلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَ اللهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَلَكِنْ اكْتُبْ: بِاسْمِكَ اللهمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللهمَّ”، ثُمَّ قَالَ: “هَذَا مَا قَاضَى عَلَيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله”، فَقَالَ سُهَيلٌ: وَاللهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ الله مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ، وَلَا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بن عبد الله، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “وَاللهِ إِنِّي لَرَسُولُ الله وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي اكْتُبْ مُحَمَّدُ بن عبد الله” (1)، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: “لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ الله إِلَّا أَعْطَيتُهُمْ إِيَّاهَا”، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيتِ فَنَطُوفَ بِهِ”، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ الله كَيْفَ يُرَدُّ إلى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أبو جَنْدَلِ بن سُهَيْلِ بن عَمْرٍو يَرْسُفُ (2) في قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بنفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لسُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ”، قَالَ: فَوَاللهِ إذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيءٍ أَبَدًا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “فَأَجِزْهُ لِي”، قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قَالَ: “بَلَى فَافْعَلْ”، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ مِكْرَزٌ: بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ، قَالَ أبو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدُّ إلى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا في الله قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ الله حَقًّا؟ قَالَ: “بَلَى”، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: “بَلَى”، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِيينَا إِذًا؟ قَالَ: “إنِّي رَسُولُ الَله وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي”، قُلْتُ: أَوَ لَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: “بَلَى فَأخبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ”، قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: “فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ”، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: يَا أبَا بَكْرٍ أَلَيسَ هَذَا نَبِيَّ الله حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِيينَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَلَيسَ يَعْصِي رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا (1)، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: “قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا”، قَالَ: فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ: ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِي الله أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّم أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} حَتَّى بَلَغَ {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ في الشِّرْكِ فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بن أبي سُفْيَانَ، وَالْأُخْرَى صَفْوَانُ بن أُمَيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الْمَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أبو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا في طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إلى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أبو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلَانُ جَيِّدًا فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ وَاللهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أبو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ وَفَرَّ الآخَرُ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُ: “لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا”، فَلَمَّا انْتَهَى إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قُتِلَ وَاللهِ صَاحِبِي، وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ، فَجَاءَ أبو بَصِيرٍ، فَقَالَ: يَا نَبِي الله قَدْ وَاللهِ أَوْفَى الله ذِمَّتَكَ قَدْ رَدَدْتَنِي إلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِي الله مِنْهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أحَدٌ” (1)، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ، قَالَ: وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أبو جَنْدَلِ بن سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأبي بَصِيرٍ فَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلَّا لَحِقَ بِأبي بَصِير حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ فَوَاللهِ مَا يَسْمَعُونَ بعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إلى الشَّأمِ إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ فَأرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم تُنَاشِدُهُ بِاللهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِم فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} حَتَّى بَلَغَ {الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 24 – 26] وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أنَّهُ نَبِيُّ الله وَلَمْ يُقِرُّوا بِـ (بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ.

‌‌أحداث أخرى مهمة:
كان النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تأتيه رسلُ قريش قد أرسل إليهم، لبيان موقفه وأنه لم يأت إلا لزيارة البيت وأداء العمرة ولم يأت لحرب.
فبَعَثَ خِرَاشَ بن أُمَيَّةَ الْخُزَاعِيَّ إلى مَكَّةَ، وَحَمَلَهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ:الثَّعْلَبُ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَقَرَتْ بِهِ قُرَيْشٌ (1)، وَأَرَادُوا قَتْلَ خِرَاشٍ فَمَنَعَهُم الْأَحَابِشُ، حَتَّى أَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَدَعَا عُمَرَ لِيَبْعَثَهُ إلى مَكَّةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وَلَيْسَ بِهَا مِنْ بني عَدِيٍّ أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا، وَلَكِنْ أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ هُوَ أَعَزُّ مِنِّي (2) عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، قَالَ: فَدَعَاهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَهُ إلى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأتِ لِحَرْبٍ، وَأَنَّهُ جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ، مُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ، فَخَرَجَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، وَلَقِيَهُ أَبَانُ بن سَعِيدِ بن الْعَاصِ، فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَدِفَ خَلْفَهُ، وَأَجَارَهُ حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ، فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، فَقَالُوا لِعُثْمَانَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ بِهِ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ (3).
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للبيعة تحت الشجرة (4).
ومما حدث أيضًا أنه أثناء سير النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية ولما بلغ الروْحَاء على بعد 73 كيلو مترًا من المدينة أرسل أبا قتادة الأنصاري مع جمع من الصحابة إلى غيقه على ساحل البحر الأحمر حيث بلغه وجود بعض المشركين الذين يُخشى من مباغتتهم للمسلمين، فَقَالَ: “خُذُوا سَاحِلَ اِلْبَحْرِ حَتَّى نَلْتَقِيَ”، فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا أبو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ أبو قَتَادَةَ عَلَى الْحُمُرِ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا (1)، فَنَزَلُوا فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهَا، وَقَالُوا: أَنَأكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ قال أبو قتادة: فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ الْأَتَانِ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ الله إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا، وَقَدْ كَانَ أبو قَتَادَةَ لَم يُحْرِمْ، فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أبو قَتَادَةَ، فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا، فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا، ثُمَّ قُلْنَا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا، قَالَ: “أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيهَا؟ “، قَالُوا: لَا، قَالَ: “فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا”.

‌‌بنود العقد:
‌‌كان العقد الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين مكتوب فيه:
بِاسْمِكَ اللهمَّ، هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بن عبد الله وَسُهَيْلُ بن عَمْرٍو عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أَصْحَابِهِ بِغَيرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ رَدَّهُ عَلَيهِمْ، وَمَنْ أَتَى قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ، وإِنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً (1)، وإنَّهُ لَا إِسْلَالَ وَلَا إِغْلَالَ (2)، وَأَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ في عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ في عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ، فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ، فَقَالُوا: نَحْنُ مَعَ عَقْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَعَهْدِهِ، وَتَوَاثَبَتْ بنو بَكْرٍ، فَقَالُوا: نَحْنُ في عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ، وَأَنَّكَ تَرْجِعُ عَنَّا عَامَنَا هَذَا فَلَا تَدْخُلْ عَلَيْنَا مَكَّةَ، وَأَنَّهُ إِما كَانَ عَامُ قَابِلٍ خَرَجْنَا عَنْكَ فَتَدْخُلُهَا بِأَصْحَابِكَ وَأَقَمْتَ فِيهِمْ ثَلَاثًا مَعَكَ سِلَاحُ الرَّاكِبِ، لَا تَدْخُلْهَا بِغَيْرِ السُّيُوفِ في الْقُرُبِ (3).
وقد لاقت هذه الشروط- التي ظاهرها توهين لموقف المسلمين- غضبًا شديدًا من بعض الصحابة وقد تقدم موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ومما يعبر عن مشاعر المسلمين من هذه الشروط، ورفضهم لها قول سهل بن حُنيف رضي الله عنه يوم صفين: اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أبي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَرَدَدْتُهُ.

وفي الحديبية نزل المطر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يصلوا في رحالهم، عَنْ أبي الْمَلِيح قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَصَابَتْنَا سَمَاءٌ لَمْ تَبُلَّ أسَافِلَ نِعَالِنَا (1)، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: صَلُّوا في رِحَالِكُمْ (2).
وفي الحديبية حمل كعب بن عُجرة رضي الله عنه إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِه، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى- أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى- تَجِدُ شَاةً؟ “، فقال كعب: لَا، فَقَالَ: “فَصُم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ” (3).
وعَنْ جَابِرِ بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ: نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبعَةٍ (4).
وعن عبد الله بن مَسْعُودٍ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ يَكْلَؤُنَا (5)؟ “، فَقَالَ بِلَالٌ: أَنَا، فَنَامُوا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ. وكان ذلك في صلاة الصبح فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: “افْعَلُوا كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ”، قَالَ: فَفَعَلْنَا، قَالَ: “فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا لِمَنْ نَامَ أَوْ نَسِيَ”وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بنتُ عُقْبَةَ بن أبي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَرْجِعْهَا إِلَيْهِمْ، لِمَا أَنْزَلَ الله فِيهِنَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} إِلى قَوْلِهِ: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] (1).
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَهْدَى عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ في هَدَايَا رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم جَمَلًا كَانَ لِأبي جَهْلٍ في رَأْسِهِ بُرَةُ فِضَّةٍ (2)، يَغِيظُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ (3).
وعَنْ زَيْدِ بن خَالِدٍ الجهني رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَصَابَنَا مَطَرٌ ذَاتَ لَيلَةٍ، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: “أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ “، قُلْنَا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! فَقَالَ: “قَالَ الله: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي، فَأَمَّا مَن قَالَ: مُطِرْنَا بِرَحْمَةِ الله وَبِرِزْقِ الله وَبِفَضْلِ الله، فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَب، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بنجْمِ كذَا فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ كَافِرٌ بِي. وعن جَابِر بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ (1) فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ النَّاسُ نَحْوَهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “مَا لَكُمْ؟ “، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأ بِهِ وَلَا نَشْرَبُ إِلَّا مَا في رَكْوَتِكَ، قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ في الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ، قَالَ: فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّاْنَا، فَقُيلْ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً

عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُتَسَلِّحِينَ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ- عند صلاة الفجر- فَأَخَذَهُم سِلْمًا فَأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}

لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى قريش ليبين لهم سبب مجيء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأنهم يقصدون العمرة وليس القتال، وتأخر عثمان رضي الله عنه فظن المسلمون أن قريشًا قتلته، دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى البيعة على قتال قريش.
فبايعوه جميعًا تَحْتَ الشَّجَرَةِ- وَهِيَ سَمُرَةٌ – غَيْرَ جَدِّ بن قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ اخْتَبَأَ تَحْتَ بَطْنِ بَعِيرِهِ (1)، وكان الجد بن قيس منافقًا.
وقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ الْيُمْنَى: “هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ”، فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: “هَذِهِ لِعُثْمَانَ” (2).
وقد بايع الصحابة رضوان الله عليهم النبي صلى الله عليه وسلم على الموت وعلى ألا يفروا.
عَنْ يَزِيدَ بن أبي عُبَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ لِسَلَمَةَ بن الْأَكْوَعِ: عَلَى أَيِّ شَيءٍ بَايَعْتُمْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ (3).
وعن عبد الله بن زيد أنه أتاه آت فقال يَوْمَ الْحَرَّةِ وَالنَّاسُ يُبَايِعُونَ لِعبد الله بن حَنْظَلَةَ: هذاك ابْنُ حَنْظَلَةَ يبايع النَّاسَ، فقال: على ماذا؟ قال: عَلَى الْمَوْتِ، قَالَ: لَا أُبَايعُ عَلَى هذا أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.

وعن جَابِر رضي الله عنه قَالَ: لَمْ نُبَايعْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَوْتِ إِنَّمَا بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ (1).
وقد ذكر ابن حجر أنه لا تعارض بين المبايعة على الموت وعلى أن لا يفروا، حيث قال: وَقَدْ أَخْبَرَ سَلَمَة بن الْأَكْوَع- وَهُوَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْت الشَّجَرَة- أَنَّهُ بَايَعَ عَلَى الْمَوْت، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْن قَوْلهمْ بَايَعُوهُ عَلَى الْمَوْت، وَعَلَى عَدَم الْفِرَار، لِأَنَّ الْمُرَاد بِالْمُبَايَعَةِ عَلَى الْمَوْت أَنْ لَا يَفِرُّوا وَلَوْ مَاتُوا، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنْ يَقَع الْمَوْت وَلَا بُدّ (2).
وعَنْ مَعْقِلِ بن يَسَارٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ الشَّجَرَةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُبَايعُ النَّاسَ، وَأَنَا رَافِعٌ غُصْنًا مِنْ أَغْصانِهَا عَنْ رَأْسِهِ، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، قَالَ: لَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ (3).

‌‌سلمة بن الأكوع رضي الله عنه يبايع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات:
عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قَالَ: قَدِمْنَا الْحُدَيْبيَةَ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً وَعَلَيْهَا خَمْسُونَ شَاةً لَا تُرْوِيهَا. قَالً: فَقَعَدَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى جَبَا الرَّكِيَّةِ (4)، فَإِمَّا دَعَا وَإِمَّا بَصَقَ فِيهَا، قَالَ: فَجَاشَتْ فَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم دَعَانَا لِلْبَيْعَةِ في أَصْلِ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَبَايَعْتُهُ أَوَّلَ النَّاسِ ثُمَّ بَايَعَ وَبَايَعَ حَتَّى إِذَا كَانَ في وَسَطٍ مِنْ النَّاسِ، قَالَ: “بَايع يَا سَلَمَةُ! “، قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُكَ يَا رَسُولَ الله في أَوَّلِ النَّاسِ، قَالَ: “وَأَيْضًا”، قَالَ: وَرَآنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَزِلًا- يَعْنِي لَيْسَ مَعَهُ سِلَاحٌ – قَالَ: فَأَعْطَانِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَجَفَةً أَوْ دَرَقَةً (5) ثُمَّ بَايَعَ حَتَّى إِذَا كَانَ في آخِرٍ النَّاسِ، قَالَ: “أَلَا تُبَايِعُنِي يَا سَلَمَةُ؟ “، قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُكَ يَا رَسُولَ الله في أوَّلِ النَّاسِ وَفِي أَوْسَطِ النَّاسِ، قَالَ: “وَأَيْضًا”، قَالَ: فَبَايَعْتُهُ الثَّالِثَةَ، ثُمَّ قَالَ لِي: “يَا سَلَمَةُ أَيْنَ حَجَفَتُكَ أَوْ دَرَقَتُكَ الَّتِي أَعْطَيْتُكَ؟ “، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله لَقِيَنِي عَمِّي عَامِرٌ عَزِلاً، فَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا، قَالَ: فَضحِكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: “إِنَّكَ كَالّذِي قَالَ الْأَوَّلُ: اللهمَّ أَبْغِنِي حَبيبًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي”، ثُمِّ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ رَاسَلُونَا الصُّلْحَ، حَتَّى مَشَىَ بَعْضُنَا في بَعْضٍ وَاصْطَلَحْنَا، قَال: وَكُنْتُ تَبِيعًا لِطَلْحَةَ بن عُبَيْدِ الله أَسْقِي فَرَسَهُ وَأَحُسُّهُ وَأَخْدِمُهُ، وَآكُلُ مِنْ طَعَامِهِ، وَتَرَكْتُ أَهْلِي وَمَالِي مُهَاجِرًا إلى الله وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَلَمَّا اصْطَلَحْنَا نَحْنُ وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَاخْتَلَطَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ أَتَيْتُ شَجَرَةً فَكَسَحْتُ شَوْكَهَا، فَاضْطَجَعْتُ في أَصْلِهَا، قَالَ: فَأَتَانِي أَرْبَعَةٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا يَقَعُونَ في رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَبْغَضْتُهُم فَتَحَوَّلْتُ إلى شَجَرَةٍ أُخْرَى، وَعَلَّقُوا سِلَاحَهُمْ وَاضْطَجَعُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ نَادَى مُنَادٍ مِنْ أسفَلِ الْوَادِي: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ قُتِلَ ابْنُ زُنَيْمٍ، قَالَ: فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي (1)، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَى أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةِ، وَهُمْ رُقُودٌ فَأخَذْتُ سِلَاحَهُمْ فَجَعَلْتُهُ ضِغْثًا (2) في يَدِي، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ: وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ لَا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَأْسَهُ إِلَّا ضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ، قَالَ: ثمَّ جِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُم إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَجَاءَ عَمِّي عَامِرٌ برَجُلِ مِنْ الْعَبَلَاتِ (3) يُقَالُ لَهُ: مِكْرَزٌ يَقُودُهُ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى فَرَسٍ مُجَفّفٍ (4) في سَبْعِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: “دَعُوهُمْ يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ وَثِنَاهُ” (5)، فَعَفَا عَنْهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلَ الله {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}‌‌منزلة أهل بيعة الرِّضوان:
الذين قال الله تعالى فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من الصدق والوفاء، والسمع والطاعة {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} [الفتح: 18].
وعن جَابِر بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبيَةِ: “أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ”، وَكُنَّا أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ (1).
وعن أُمِّ مُبَشِّرٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عِنْدَ حَفْصةَ: “لَا يدخلُ النَّارَ إِنْ شَاءَ الله مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ، الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا”، قَالَتْ: بَلَى يَا رَسُولَ الله فَانْتَهَرَهَا، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “قَدْ قَالَ الله عز وجل: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} [مريم: 72] (2).
وجَاءَ عبد لِحَاطِبِ بن أبي بَلْتَعَةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا، فإِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ”

عن عبد الله بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ،فَذكَرُوا أَنهُمْ نَزَلُوا دَهَاسًا منْ الأَرْض – يَعْنِي: الدَّهَاسَ الرَّمْلَ – فَقَالَ: “مَنْ يَكْلَؤُنَا؟ “، فَقَالَ بِلَالٌ: أَنَا، فَقَالَ رَسُوَلُ الله صلى الله عليه وسلم: “إِذَنْ تَنَمْ”، قَالَ: فَنَامُوا حَتَّى طلَعَتْ، الشَّمْشُ، فَاسْتَيْقَظَ نَاسٌ مِنْهُمْ فلَانٌ وَفُلَانٌ، وفِيهِمْ عُمَرُ، قَالَ: فَقُلْنَا: اهْضبُوا – يَعْنِي: تَكَلَّمُوا – قَالَ: فَاسْتَيْقَظَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: “افْعَلُوا كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ”، قَالَ: فَفَعَلْنَا، قَالَ: وَقَالَ: “كَذَلِكَ فَافْعَلُوا، لِمَنْ نَامَ أَوْ نَسِيَ” (1)، قَالَ: وَضلَّتْ نَاقَةُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَطَلَبْتُهَا، فَوَجَدْتُ حَبْلَهَا قَدْ تَعَلَّقَ بِشَجَرَةٍ، فَجِئْتُ بِهَا إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَرَكِبَ مَسْرُورًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ عَلَيهِ الْوَحْيُ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَرَفْنَا ذَلِكَ فِيهِ، قال: فَتَنَحَّى مُنْتَبِذًا (2) خَلْفَنَا، قَالَ: فَجَعَلَ يُغَطِّي رَأْسَهُ بِثَوْبِهِ وَيَشْتَدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، حَتَّى عَرَفْنَا أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَتَانَا فَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح: 1] (3).
وعَنْ زَيْدِ بن أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسِيرُ في بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَعُمَرُ بن الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلاً، فَسَأَلَهُ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ عَنْ شَيءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَم يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: ثَكِلَتْ أُمُّ عُمَرَ (4) نَزَرْتَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُكَ، قَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ النَّاسِ، وَخَشِيتُ أَنْ يُنْزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي، فَقُلْتُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرآنٌ، فَجِئْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: “لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَى اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ”، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح: 1] (1).
وعن أبي وَائِلٍ قَالَ: قَامَ سَهْلُ بن حُنَيْفٍ يوم صفين، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَة وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، وذكك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، فَجَاءَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: “بَلَى”، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا في الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ في النَّارِ؟ قَالَ: “بَلَى”، قَالَ: فَفيم نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا (2)، ونَرجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: “يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ الله وَلَنْ يُضَيعَنِي الله أَبَدًا”، قال: فَانْطَلَقَ عُمَرُ فلم يصبر متغيظًا، فأتى أبي بَكْر، فَقَالَ: يا أبا بكر أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: “بَلَى”، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا في الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ في النَّارِ؟ قَالَ: “بَلَى”، قَالَ: فعلام نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا، ونَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: يا ابن الخطاب إِنَّهُ رَسُولُ الله وَلَنْ يُضَيِّعَهُ الله أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ فَقَرَأَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى عُمَرَ إلى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله أَوَ فَتحٌ هُوَ؟ قَالَ: “نَعَمْ”، فطابت نفسه ورجع (3).
وعَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بن مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} إلى قَوْلِهِ: {فَوْزًا عَظِيمًا (5)} [الفتح: 1 – 5]، مَرْجِعَهُ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُمْ يُخَالِطُهُمْ الْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ، وَقَدْ نَحَرَ الْهَدْيَ بِالْحُدَيْبِيَةِ (1)، فَقَالَ: “لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا جَمِيعًا” (2).

‌‌قال ابن سعد رحمه الله -:
أقام بالحديبية بضعة عشر يومًا، ويقال عشرين ليلة، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كانوا بضجنان (3) نزلت عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} فقال جبريل: نهنئك يا رسول الله، وهنأه المسلمون

حرمت المسلمات على المشركين، تخصيصًا لعموم ما وقع به الصلح عام الحديبية على أنه: لا يأتيك منا أحد، وإن كان على دينك، إلا رددته علينا.
فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}